تضع التأويلات لبنان بين الانفجار الأمني والصفقة السياسية في أعقاب تقرير محطة «سي بي سي» الكندية الذي زعم كشف وثائق للجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، توصلت الى ان أعضاء من «حزب الله» كانوا وراء الاغتيال الذي وقع عام 2005 وأودى بحياة 22 شخصاً آخرين. هذا التقرير يتناول عملية التنفيذ ولا يتطرق الى مَن المسؤول عن اتخاذ قرار الاغتيال. وقد يبدو التقرير إدانة ل «حزب الله» من دون غيره. واقع الأمر هو ان التقرير يدين رئيس التحقيق الثاني، البلجيكي سيرج براميرتز، الذي اكتشف عنصر «حزب الله» في العملية لكنه «أضاع» الوثائق ذات الصلة التي سلمها الى التحقيق النقيب في قوى الأمن الداخلي وسام عيد الذي اغتيل لاحقاً عام 2008. براميرتز اليوم موظف عالي المستوى بصفته المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقاً وكان أمضى سنتين بين كانون الثاني (يناير) 2006 حتى كانون الثاني 2008 في صمت حول ما كان يفعل عند ترؤسه اللجنة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال الحريري. تقرير «سي بي سي» يكشف ملابسات جديدة عن دور براميرتز يجب على الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون التدقيق جدياً فيها. فلقد فشل براميرتز في صيانة التحقيق وفي حماية الشهود وقد تكون قراراته أو «إهماله» للوثائق داعياً لرفع قضية ضده لأن ما فعله ربما ساهم في قتل الرجل الذي قام حقاً بالتحقيق، فيما كان براميرتز يدفن الأدلة، سهواً أو عمداً. أقل ما على بان كي مون ان يفعله هو فتح تحقيق داخلي بحق سيرج براميرتز للتعرف الى كيف يجوز لرئيس تحقيق دولي ان «يهمل» أو يضيّع» أو «يتناسى» او «يغض النظر» عن تقرير في حوزة التحقيق لفترة سنة ونصف سنة. كذلك، يجب على الأمين العام ان يدعو الى تحقيق داخلي للأمم المتحدة حول تسريب الوثائق التي هي ملك التحقيق. لا يكفي الاستنكار وإلقاء اللوم على الإعلام لحصوله على الوثائق. المطلوب ان يُحاسَب رئيس التحقيق الحالي منذ عام 2008 والمدعي العام لدى المحكمة الخاصة الكندي دانيال بلمار، لأن الوثائق تم تسريبها في عهده. وبالقدر نفسه من الأهمية، بلمار مطالب اليوم بأن يكف عن اللعبة نفسها التي اعتمدها سيرج براميرتز للاختباء وراء سرية التحقيق لحجب ايضاح مجريات التحقيق. اليوم، على دانيال بلمار مسؤولية أخلاقية ان يقول للشعب اللبناني ماذا لديه بدلاً من التلاعب بأعصابه وبأمنه ومستقبله. فإذا كان ينوي حقاً إصدار قرار ظني بحق فرد أو ثمانية أفراد، ليقل بوضوح انه يعتزم ذلك ومتى. إذا كان لديه حقاً شهود وقضية وأدلة تمكّنه من الادعاء امام المحكمة، عليه ان يقول للبنانيين وللأمم المتحدة انه جاهز لهذه المهمة. فهناك من يعتقد ان إفلاس بلمار في هذا الصدد دعاه للعب لعبة السرية، وأنه لن يصدر أي قرار ظني بسبب فشل التحقيق الدولي في العمل السريع والدؤوب وإضاعة حوالى 5 سنوات على أيدي رجلين يفتقدان المهنية: براميرتز وبلمار. إنما هناك، من ناحية أخرى، من اعضاء مجلس الأمن من يقول ان دانيال بلمار جاهز لإصدار القرار الظني الأولي، دفعة وراء دفعة، وأنه قال لدول مهمة في مجلس الأمن انه يعتزم التسلق عبر اتهام عناصر من «حزب الله»، الى الكشف عن كل ما جرى في قضية اغتيال الحريري والاغتيالات السياسية الأخرى التي يثبت التحقيق علاقتها بذلك. فأي بلمار هو الحقيقي؟ ربما هذا التساؤل ليس بالقدر نفسه من الأهمية كما التساؤلات القائمة حول معادلات الصفقة السياسية أو الانفجار الأمني ما بعد تقرير «سي بي سي». وهنا جردة لما يدور في أروقة الأممالمتحدة وعواصم الدول المعنية. أوضح المواقف هو ان لا أحد يعرف حقاً ماذا سيجري امنياً إذا صدرت القرارات الاتهامية، أو ماذا يحدث في إطار الصفقات السياسية المتداولة محلياً وإقليمياً ودولياً. الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن تقف على المسافة نفسها من المحكمة الدولية لمقاضاة الضالعين في اغتيال الحريري. الولاياتالمتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا لن تتخلى عن المحكمة عبر قرار لمجلس الأمن، ما يعني ان لا مجال ابداً لإلغاء المحكمة. وهذه الدول لن تدخل طرفاً علنياً في اية صفقات محلية أو إقليمية تجعلها تبدو كأنها في مناقصة او مساومة على العدالة. فرنسا اكثر الدول ارتباكاً لأن الرئيس نيكولا ساركوزي يخوض معركة مع الطاقم الديبلوماسي في حكومته بسبب المحكمة. إنه شخصياً طرف في المساومات السياسية التي تمر عبر دمشقوالدوحة، إنما وزارة الخارجية تشعر بالخجل والقلق وهي تراقب فرنسا في بلبلة وتراجع عن تقاليدها ومبادئها عندما يتعلق الأمر بعلاقتها مع لبنان. الديبلوماسيون الفرنسيون في باريس كما في الأممالمتحدة يحاولون رفع العتب واللوم من خلال الإشارة الى «ضعف» إدارة باراك أوباما وانحسار عزمها على التعاطي جدياً مع ملف لبنان. يشيرون ايضاً الى «تبعثر» القيادة السنّية في العالم العربي. يقولون ان عدم توافر خيارات «التصدي» للتهديدات بجر لبنان الى حرب أهلية إذا صدرت القرارات الاتهامية بحق «حزب الله» يجعل فرنسا غير قادرة على التعاطي مع الخطوة التالية. والسبب هو ان ساركوزي يرفض التوجه الى عنوان مهم في المعادلة، وهو دمشق، لأسباب خاصة به وربما لها صلة بعلاقته المميزة مع الدوحة. البريطانيون يتظاهرون أنهم على يقين ان لا داعي للقلق من الانفجار الأمني نتيجة القرار الظني. يقولون ان معلوماتهم الاستخبارية والديبلوماسية تشير الى ان «حزب الله» لن ينفذ تهديداته الأمنية ولن يأخذ البلد الى المواجهة لعدة أسباب. بعضها يتعلق بإيران وبعضها بإسرائيل، والبعض الآخر يتعلق بأسباب وخلفيات إقدام «حزب الله» على إدانة نفسه قبل ان يدينه تقرير «سي بي سي» أو المحكمة الدولية. رأيهم ان الجميع سيتراجع الى نوع من «الوضع الراهن»، وأن الفرز الإقليمي والدولي لجهة العلاقة الإيرانية – الدولية أو الإيرانية – الإسرائيلية أو السورية – الإيرانية أو السعودية – الإيرانية لم يكتمل. البريطانيون قرروا المضي بالرهان على خلق شرخ في العلاقة السورية – الإيرانية وهم ينظرون الى «حزب الله» حصراً في تلك العلاقة مع انعكاساتها وإمداداتها اللافتة مع إسرائيل. فالتنبؤات البريطانية هي الهدوء إن لم يكن الصفقة. الروس يرون ان طرفاً ما، أو دولة ما او مجموعة ما، تريد إحباط إصدار القرار الظني، ولذلك أتى تقرير ال «سي بي سي» من وجهة نظرهم. فالإدانة العلنية في الإعلام والرأي العام ل «حزب الله» عبر تقرير «سي بي سي» هدفها قطع الطريق على الإدانة في المحكمة في لاهاي. يلمح بعض الروس الى ان «هؤلاء» – من دون تسميتهم – أرادوا عبر التسريب تعطيل المسيرة نحو محاكمة قد تؤدي الى سنوات من الاستنطاق وقد تؤدي ايضاً الى محاكمة عناصر اخرى وليس عناصر في «حزب الله» حصراً. «هؤلاء»، لدى التفكير الروسي هم من داخل إدارة باراك أوباما مهما تبيّن ان وراء التسريبات، على الأرجح، أحد المحققين الذين نفذ صبرهم من مماطلة دانيال بلمار وتظاهره بأنه مهني، علماً أنه أمضى سنتين حيناً مهدداً بالاستقالة وحيناً في مرض وحيناً يوحي بأن القرارات الظنية آتية. أحد المحققين هو من الذين عملوا مع سيرج براميرتز واطلع على مدى تهاونه وإهماله التحقيق مع اهتمامه بنفسه حصراً ليتدرج بيروقراطياً، وتقاعسه في الوقت ذاته عن القيام بالمهمات التي تركها له الرجل الذي أوصى به، أي المحقق الأول ديتليف ميليس. فما جاء في تقرير «سي بي سي» حول شبكة الاتصالات الهاتفية وعلاقاتها مع أشخاص في الحكومة جاء في التقرير الأول لديتليف ميليس بما في ذلك خلية الثمانية أشخاص التي كانت تراقب تحركات الحريري. وكان ذلك عام 2005 وما اعتمد عليه تقرير ميليس اساساً هو تلك الاتصالات الهاتفية، كما جاء في تقريره. إنما عودة الى الدول الكبرى، فالصين ليست في صلب الاهتمام بالمحكمة الدولية او بلبنان أو بالعلاقات الإقليمية المعنية بملف الاغتيال. الولاياتالمتحدة، بالتأكيد، هي في الطليعة ليس وضوحاً وإنما غموضاً، على رغم التصريحات الأخيرة والإعلان عن تمويل المحكمة. هناك انطباع عام بأن الإدارة الأميركية تريد إدانة «حزب الله» ورفع الظن والاتهام عن سورية. إنما هناك ايضاً كلام عن «جهات» داخل الإدارة الأميركية تريد التخاطب مع إيران عبر اتهام «حزب الله». هذه المخاطبة لها شقان، كالعادة، وهما الجزرة والعصا. إنما العصا ليست عبر ما في حوزة المحكمة. إنها تتعلق بما في حوزة الاستخبارات الأميركية. بمعنى ان ما تم تسريبه الى «سي بي سي» ليس سوى نموذج عما في حوزة الاستخبارات الأميركية. وبالتالي، إما التعاون والتحدث والانخراط ليس لبنانياً وإنما نووياً وإقليمياً، وإلا، فإن المعلومات الاستخبارية ستتدفق الى دانيال بلمار لتمكينه حقاً من إصدار قرارات ظنية ذات معنى. السؤال اللافت هو: لماذا أقدم «حزب الله» على إدانة نفسه قبل إقدام المحكمة الدولية على إدانته؟ يقول المطلعون على التركيبة الداخلية للحزب ان هناك معركة بين الشق السوري والشق الإيراني داخل «حزب الله». وربما هذه هي اهم معركة يجب مراقبتها عن كثب. صفقة سياسية أم انفجار أمني؟ بالطبع ان المسؤولية الأخلاقية الأولى تقع على القيادات اللبنانية وبالذات «حزب الله». لكن المسؤولية الأخلاقية تقع ايضاً وبالقدر نفسه على الأممالمتحدة وعلى الأمين العام بان كي مون الذي عليه ان يُحاسب رجلين جرّا لبنان الى الهاوية. وما بينهما، من الإدارة الأميركية في واشنطن الى القيادة السياسية في دمشق الى الوسطاء من أنقرة الى الرياض الى الدوحة، ان المسؤولية الأخلاقية تتطلب ان يكون عمر «الصفقة السياسية» أطول من مجرد أيام. فلقد هلِكت أعصاب اللبنانيين. وهم ضحية وشهداء شأنهم شأن رجل اسمه وسام عيد.