من ليوناردو دي كابريو الى نجمتنا المصرية الحسناء بوسي. ومن مات ديلون الى خالد صالح والمغربية منى فتو وبطلة"سميرة في الضيعة"سناء موزيان، الى سلسلة من نجوم آتين من بلاد بالكاد كنا نعرف شيئاً عن سينماها، تمتلئ مدينة مراكش هذه الأيام بالنجوم. يحضرون الحفلات الرسمية. يبتسمون للكاميرات، يتجولون في الأسواق وويلهم من تزاحم الجمهور عليهم إن تعرف إليهم، كما يحدث في كل لحظة مع بوسي وخالد صالح اللذين وصلا قبل الوفد المصري بأيام فكانا حديث مراكش. ويتحدثون عن السينما وحبهم لها، فيما يستعد معظمهم لخيانتها مع التلفزيون. غير ان النجوم الحقيقيين في مراكش هذا العام، كما في الأعوام الثلاثة السابقة هم... المخرجون. ولعلنا هنا نرى الاهتمام بالمخرجين يفوق الاهتمام بالممثلين، في مهرجان، لمرة نادرة. بدءاً من سكورسيزي وآبيل فيرارا وصولاً الى مخرجين مغاربة حققوا بالأفلام الأخيرة نهضة متجددة للسينما المغربية، مروراً براحلين يكرمون مثل انغمار برغمان ومايكل انجلو أنطونيوني والمنتج التونسي أحمد عطية، كما بمخرج ياباني نال في حفل تكريمه تصفيقاً مدهشاً مع أنه يعتبر واحداً من أصعب السينمائيين اليابانيين الجدد لغة ومواضيع. وبالكاد كان سمع به أحد قبل هذا المهرجان في مراكش. نتحدث هنا عن شنجي ايوييما صاحب"ايريكا"و"القمر الصحراء"بين تحف غربية أخرى. لكن"نجم النجوم"بين هؤلاء جميعاً كان، هذه المرة، ميلوش فورمان، الذي يترأس في هذه الدورة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، بعد أن كان رأسها تباعاً، مارتن سكورسيزي وستيفن فيريرز ورومان بولانسكي في الدورات السابقة. والحال إننا إذا استثنينا"كان"أين يمكننا أن نجد مهرجاناً سينمائياً يتعاقب على التحكيم فيه مبدعون سينمائيون من هذا المستوى؟ منذ سنوات صار فورمان مقلاً بعض الشيء في إنتاجه السينمائي، فهو خلال العقد الأخير من السنوات لم يحقق للرجل نجاحاً يضاهي نجاح أفلامه السابقة. وهنا، من أجل إنعاش ذاكرة القارئ، قد يكون كافياً أن نذكر ثلاثة من أفلام فورمان"القديمة"حتى تقفز أمامنا، على الفور، صورته كواحد من كبار الذين عرفوا كيف يوازنوا بين السينما"الشعبية"والسينما"النخبوية"خلال عشر سنوات امتدت بين 1975 و1984. إذ خلال تلك الفترة حقق فورمان على التوالي:"واحد طار فوق عش الوقواق"1975 ثم"هير"1979 وپ"راغتايم"1981، وصولاً الى"أماديوس"1984. ومحبو السينما يعرفون، بالطبع، أن هذه الأفلام تشكل العصر الذهب لمسيرة ميلوش فورمان الأميركية، وحقبة الأوسكارات المتعددة في مساره. ولكن لماذا نتحدث عن"مسيرة أميركية"في هذا السياق؟ بداوة ببساطة لأن ما ينحو كثر الى نسيانه حين الحديث عن ميلوش فورمان - الذي إذ تأمرك صار اسمه ميلوس -، هو أنه كان قبل ذلك واحداً من كبار مخرجي السينما التشيكوسلوفاكية وبالتالي عرف خلال سنوات الستين من القرن العشرين بكونه، الى زميله البولندي رومان بولانسكي، من رواد الانشقاق بين سينمائيي أوروبا الشرقية. ولكن إذا كان انشقاق بولانسكي قد تبدى شخصياً، فنياً أكثر منه سياسياً. فإن انشقاق فورمان كان سياسياً خالصاً. في أفلامه التشيكية الأربعة الأول "استماع"1963،"بلاك بينز"1964،"غراميات شقراء"1965،"الى النار أيها الإطفائيون" عبر فورمان عن"غضبه"من النظام البيروقراطي القمعي القائم في بلاده. وحتى وإن لم يكن تعبيره فجاً ودون كيشوتياً، فإن سلطات براغ أدركت هذا الأمر، كما أدركته الشبيبة التشيكية في ذلك الحين لتتزاحم على مشاهدة هذه الأفلام، في وقت راحت فيه الرقابة تتزاحم أكثر وأكثر على منعها أو ? على الأقل ? الحذف منها. وهذا كله جعل من فورمان واحداً من كبار المبدعين الذين وقفوا خلف ربيع براغ، الى جانب صديقه الكاتب المسرحي فاكلاف هافل، الذي سيودع السجن قبل أن يعود ليصبح رئيساً تشيخياً حين تحررت من"النير السوفياتي"بحسب التوصيف الذي أطلقه بنفسه. المهم ان ميلوش فورمان، إذ اكتشف الغرب خصوصاً فيلمه الكبير الأول"غراميات شقراء"صار من الشهرة العالمية ما جعله يفكر بأن له حصانة ما. لكنه كان مخطئاً، حيث إن السلطات في بلاده منعت عرض"الى النار أيها الإطفائيون"ووجد هو نفسه، بالتالي، من دون عمل فما كان منه إلا أن قبل بأول عرض أميركي قدم له، ليحقق سنة 1971 فيلمه الأميركي الأول"إقلاع"الذي حقق نجاحاً لا بأس به ولكن إذ اعتبر الفيلم كناية عما يحدث في براغ، طردت سلطات هذه الأخيرة المخرج الشاب، الذي لم يلبث أن استقر في الولاياتالمتحدة لينال جنسيتها بعد ذلك بفترة. وهكذا بدأ مساره الأميركي... المسار الذي كان أميركياً بامتياز - على عكس، مثلاً، مسار زميله الألماني فيم فندرز الذي إذ خاض مغامرة السينما الأميركية ظل ينظر الى أميركا بعينين ألمانيتين مدهوشتين - وحتى إذا كانت أفلام فورمان - المأخوذة في معظمها إما عن كتب أدبية -"راغتايم"عن رواية لدوكتوروف، أو"فالمونت"عن رواية"العلاقات الخطرة" وإما عن مسرحيات موسيقية "أماديوس"وپ"هير" أو عن مسرحيات نثرية "واحد طار فوق عش الوقواق" - حتى إذا كانت هذه الأفلام تتناول مواضيع كونية عامة، فإن انخراط فورمان في الروح الأميركية - بالتضافر مع إبداعه ذي الجذور الأوروبية الوسطى - بدا واضحاً بحيث لا يمكن أن يوصف اليوم، إلا بالمخرج الأميركي بامتياز. وحسبنا أن نشاهد فيلمين له لا سيما الأكثر أهمية في سينماه على أي حال ? هما" الشعب ضد لاري فلينت"عن حياة وآلام صاحب مجلات إباحية، وپ"رجل فوق القمر"عن هزلي مسرحي يموت بداء عضال، حتى ندرك هذا. غير أن ما يمكننا أن ندركه أكثر من خلال العروض التكريمية، في مراكش، والتي تقدم على هامش حضور ميلوش فورمان، هنا، هو أن هذا المخرج يكاد - بعد كل شيء - أن يؤكد مرة أخرى، ليس على جذوره التشيكية، أو حاضره الأميركي. بل على بداءة فن السينما. ففورمان في مواضيعه وفي أشكال أفلامه ومواضيعها ولغاتها، يعبر خير تعبير عن ذلك السياق الذي يجعل من الفن السينمائي، الفن الأكثر بداوة في التاريخ. ولعل وجود ميلوش فورمان، هنا في مراكش، ليحكم بين أفلام آتية من شتى الثقافات وشتى البلدان وشتى الأفكار، خير تعبير عن هذا كله وخير وسيلة للتذكير به. وأوليس هذا دوراً أساساً يمكن لمهرجان سينمائي أن يقوم به؟ ألقى درس السينما طوال ساعتين . سكورسيزي شلال كلام وأفلام وموسيقى وطقوس نظرياً تحدث مارتن سكورسيزي طوال ساعتين أمام مئات احتشدوا لسماع"درس السينما"الذي ألقاه خلال اليوم الأول لفعاليات مهرجان مراكش... لكنه عملياً تحدث أكثر بكثير. ذلك أن الكلام يخرج من فم سكورسيزي وهو يتحدث بسرعة مدهشة. صاحب"سائق التاكسي"وپ"الطيار"بدا في تلك الجلسة الحميمة، أشبه بشلال من الكلمات. وخلال تلك الفترة الممتعة تحدث سكورسيزي عن أشياء كثيرة. وعن أشياء جميلة. عن مراكش وعن السينما. سينماه في شكل خاص. ونعرف اليوم ان لسكورسيزي حكاية حب طويلة مع مراكش ومع المغرب. حكاية تعود الى ما قبل العام 2005 حين خص بتكريم كبير لمناسبة ترؤسه لجنة التحكيم في مهرجان مراكش. فهو أكثر من عقدين كان صور هنا بعض أهم مشاهد فيلمه"الإغواء الأخير للمسيح"واستخدم في الفيلم موسيقى فريق"ناس الغيوان". ومنذ ذلك الحين لم يتوقف، كما قال عن التفكير بالعودة دائماً الى المغرب. ومن هنا كان قبوله حضور دورة 2005 بديهياً. ويومها إضافة الى اهتمامه باختيار الأفلام الفائزة، وعرضه فيلمه الجديد آنذاك"لا طريق الى البيت"، وعد بتعاون سينمائي تجاه طلاب السينما كما تجاه أفلام مغربية قديمة قرر إعادة تأهيل نسخها. وفعل. ثم وعد بالعودة الى المهرجان. وها هو يفعل اليوم. ولأن الرجل لا يحب الجلوس من دون عمل أو من دون كلام ألقى درس السينما الذي أتى أشبه برحلة عميقة وطويلة في عوالمه السينمائية. إذ طوال ساعتين تحدث سكورسيزي عن الذين تأثر بهم من هايغ مانوغيان استاذه الجامعي الى روجر كورمان الذي أطلقه وأعطاه فرصه الأولى. وتحدث عن روبرت دي نيرو وعن تسعة أفلام تعاونا فيها معاً. ثم تحدث عن"نجمه"الجديد ليوناردو دي كابريو. قال كم ان هذا حرفي ماهر وكيف يساعده، من دون غيره من نجومه، على أن يرتجل خلال التصوير. تحدث عن مشاهد معينة في أفلام معينة. عاد بالذاكرة الى أفلامه الأولى، والى مشهد تحضير دي نيرو نفسه ليقتل في"سائق التاكسي"."هذا المشهد حضرناه طوال أيام لأنه كان في غاية الصعوبة والدقة. لقد أمرضني"قال هذا الذي يعتبر اليوم أكبر مخرج أميركي حي. وتحدث سكورسيزي عن السينما طارحاً أسئلة حائرة من حول انتاج ترتفع وتيرته، وصالات تقفل. وتحدث عن مؤسسته لإعادة إحياء الأفلام القديمة وإنقاذها من موت أكيد. وكان فيلم"اهتزاز"للمغربي أحمد المعنوني واحداً من الأفلام التي أنقذتها المؤسسة. ولمناسبة الحديث عن"اهتزاز"القائم على تصوير عروض لفريق"ناس الغيوان"، لا بد من التوقف عند الحديث الجميل الذي تناول سكورسيزي فيه مسألة الموسيقى في أفلامه متوقفاً خصوصاً عند ثلاثة من هذه الأفلام لعبت الموسيقى فيها دوراً أساسياً:"نيويورك... نيويورك"وپ"آخر إغواء للمسيح"وپ"كوندون"فيلمه الأقل شهرة. وخلال كل ذلك الحديث الذي أصغى إليه الحضور وكأنهم يؤدون طقوساً... كان سكورسيزي يستشهد على ما يقول بمشاهد من أفلامه ولقطات تعرض أمام الحضور. وبدا كل هذا أشبه بطقوس سحرية مدهشة. ولم يكن هذا غريباً من لدن مخرج ركز الجزء الأكبر من الوقت ولحظات التفسير والتذكير، للحديث عن الطقوس وعن كيف أن أفلامه و"رجالها"عبروا عن تلك الطقوس من تافس بيكل في"سائق التاكسي"الى هوارد هيوز في"الطيار". كل هذا تحدث عنه سكورسيزي بسرعة وثقة. واستمع إليه جمهور كان لسان حاله يقول: لو لم يكن في"مراكش"سوى هذا الدرس... لكان المهرجان حدثاً استثنائياً. آبيل فيرارا ... واستراحة بطل الاستفزاز لم يحصّل المخرج الأميركي آبيل فيرارا، حتى الآن، ذلك القدر من الشهرة الذي حصّله زميله ومواطنه الكبير سكورسيزي. فهو من ناحية أصغر سناً من صاحب"عصابات نيويورك". ومن ناحية أخرى أقل اهتماماً بعالم السينما حيث يفضل التفرغ لحياته وأفلامه بدلاً من أن يمضي وقته مناضلاً من أجل الفن السابع مدافعاً عن تاريخه. من هنا يعتبر فيرارا من أولئك المخرجين الذين يفضلون أن يتركوا أفلامهم ? وأفلامه قليلة العدد، للمناسبة ? تتحدث عنهم وتقول حب السينما. ولعل واحداً من القواسم المشتركة، القليلة التي تجمع بين فيرارا وسكورسيزي، ذلك التنوع في اختيار المواضيع. والوحدة في اختيار اللغة التي تناسب كل موضوع: لغة ذات نبض. خطاب ساخر لا يخلو من لؤم. التعامل مع كل فيلم من الأفلام على أنه ملخص لتاريخ السينما كله. وهذا ما أتيح لحضور مهرجان مراكش ان يعاينوه بأنفسهم وذلك من خلال العروض التكريمية التي أقيمت لأفلام فيرارا، في حضوره. إذ انه واحد من المكرمين الأحياء الرئيسيين في المهرجان. وخلال وجوده في مراكش معظم أيام الدورة حرص فيرارا على مشاهدة أفلام آتية من بلدان عدة قال عنها:"أشاهدها لأنه ربما لا تتاح لي أية فرصة أخرى لمشاهدتها. بالنسبة إليّ، وكما تقولون، مهرجان مراكش مناسبة للاكتشافات. فلم لا أكتشف؟". على رغم أن فيرارا يقترب الآن من الستين من عمره، يبدو بنزقه وفضوله أشبه بمراهق مشاغب. واللافت أن هذه السمة لا يحملها شخصه فقط، بل أفلامه أيضاً. تلك الأفلام التي حقق أولها"القاتل المهتز"في عام 1979، وهو فيلم لعب فيه الدور الأول، دور رسام نيويوركي يجن. لم يلفت هذا الفيلم الأنظار حقاً... لكنه كان البداية التي لا بد منها، على طريق من علاماتها سبعة عشر فيلماً حقق فيرارا معظمها للسينما، فيما حقق عدداً محدوداً من الأفلام للتلفزيون. وهو يقول اليوم انه لا يجد أي فارق بين عمله للسينما وعمله للتلفزيون، من دون أن يعني هذا انه تواق دائماً الى الوقوف خلف كاميرا التلفزيون. "السينما... لا شيء غير السينما، هي حياتي"كما يقول. وهو قدم لهذه السينما مجموعة أفلام يعتبر بعضها اليوم علامات في التجديد ولكن أيضاً... في الاستفزاز. فإذا كان فيرارا قد بدا هادئاً وديعاً في مراكش يتوق الى أن يتصالح مع العالم، فإنه في أفلامه استفزازي من طراز رفيع. ومن هنا، حسبنا أن نشاهد"الملازم الفاسد"أو"ملك نيويورك"أو"غزو ناهشي الأجساد"وخصوصاً"عيون الأفعى"ثم"ماري"وأخيراً"حكايات الملهى الليلي"، حتى نتساءل ونحن نتحدث الى فيرارا أو نستمع إليه وهو يتحدث، عما إذا كان قد أخلد الى بعض الهدوء حقاً، أم انه يهادن إذا اكتشف أنه في بلد جميل ومهرجان جدي، ووسط جمهور يحب أفلامه ويريد أن يتعرف الى الوجه الآخر فيه: وجه الإنسان؟