يأتي صوتها متقطعاً عبر الهاتف، فيه خوف ورهبة يشتت تركيزها على سرد مشكلتها، بأسلوب طفولي بريء. تقول : "ستي مصممة تختنّي، وأنا مش عاوزة، مش عارفة أعمل إيه؟". مكالمة أخرى موضوعها طفل في العاشرة، خضع قبل مدة قصيرة لعملية قلب مفتوح ويحتاج إلى رعاية صحية مكثفة. أتت به والدته إلى"مركز رعاية الأحداث"، وتنازلت عنه، لأنها تزوجت رجلاً غير والده، لا يرغب في وجوده في البيت. فما كان من الضابط الذي يتابع القضية إلا أن أطلق نداء استغاثة لإنقاذ الصبي. مكالمة ثالثة من فتى في الخامسة عشرة. يقول الصوت اليافع:"ماما وبابا بيتخانقوا مع بعض. وبابا دايماً يضربني. خلاص اتخنقت، أنا جاي من العريش، علشان تشوفوا لي حل". 710 آلاف مكالمة وردت، خلال عامين، يبحث أصحابها، من البالغين والأطفال، عن استرداد حقوقهم المسلوبة، وما أكثرها: إهمال صحي، حرمان من التعليم، اضطراب أسري، عنف أبوي، تحرش جنسي... وحتى المطالبة بموبايل ذي كاميرا، أو"عناق من ماما". خط النجدة"16000"، ترجمة مصرية فعلية لحق الطفل في المطالبة بحقوقه جهراً وعلناً، والتعبير عن نفسه للمرة الأولى، في المجتمع المصري العادي. المفهوم الحقوقي للطفل في الشكل المباشر والصريح، حلّ حديثاً في المجتمع المصري، الذي استقبل"خط النجدة"بكثير من الشك والريبة، وقليل من الثقة والاطمئنان. كان هذا قبل عامين، لكن الأمور تغيرت والأوضاع تبدلت. وصارت المكالمات الهاتفية التي يستقبلها، في الطرف الآخر، خبراء نفسيون متخصصون، على مدار الساعة، من طفلة تشكو تجاهل والدتها لاحتياجاتها النفسية، أو فتى يبكي لشعوره بالغربة داخل البيت، أو أم تستغيث لردّ عنف الأب عنها واعتداءه المستمر عن الأبناء... باتت تلك المكالمات من الأمور الطبيعية، بعد رفض عام لفكرة تدخل"الأغراب"، في التعامل مع مشاكل الأطفال، باعتبارهم"ملكية خاصة"لذويهم. مديرة الخط الذي أسسه المجلس القومي للطفولة والأمومة، منال شاهين، تكشف أن النسبة الكبرى من المكالمات تعكس قدراً كبيراً من الاختلال الأسري، وغياب مفاهيم الترابط والتماسك والاحتضان التي كانت في ما مضى، سمات أساسية للأسرة المصرية، وتليها شكاوى متّصلة بالشأن المدرسي، كرفض المدرّس دخول الفصل، وترك بابه مفتوحاً، وتزايد العنف بين الأطفال. الغريب أن الخط تحول، مع الوقت، مرآة تعكس مشاكل الطفل المصري في شكل عام، إلى درجة ورود شكاوى تتعلّق بوجود كلاب ضالة في الشارع، أو المطالبة ببناء مطب اصطناعي أمام مدرسة، بعد تكرار حوادث التصادم، أو بمقعد متحرك لطفل معوّق، لا يستطيع مغادرة بيته. وعلى رغم أن مصر من أولى الدول التي سنت تشريعاً خاصاً بحقوق الطفل، ظل القانون بعيداً من الناس، حتى أقيم"خط النجدة"، ليلفت الانتباه إلى مبدأ"حق الطفل". أبناء الفقراء هم الأقل حظوة بحقوقهم. تقول شاهين إن معظم المكالمات التي ترد عبر خط النجدة، أكانت من أطفال أم من كبار،"تأتي من الشرائح الاجتماعية الفقيرة، لا سيما من بين أولئك الذين يقطنون العشوائيات، حيث الحرمان من التعليم والرعاية الصحية، وانتشار العمالة المبكرة، والتحرش والاعتداء، وغيرها من مآسٍ". العاملون في"خط النجدة"يذكرون الاتصال الذي حمل أبشع انتهاك بحق انسان طفل: سلبه حقه في الحياة بلا سبب. وهو الاتصال الذي ورد من جيران الطفلة"حنين"، وأبلغوهم بأنهم سمعوا أصوات ضرب وخبط وصراخ الطفلة. وبعد دقائق، كانت الأم تحمل ابنتها على الدرج، وهي مضرّجة بدمائها. وقالت للجيران إن الطفلة وقعت وأصيبت برأسها. لم يصدقوا الأمر، لأنها كانت تتعرّض للضرب على يد زوج أمها، ونظراً للإصابات الواضحة على جسد الصغيرة. ماتت حنين في المستشفى بعد ساعتين متأثرة بجروحها. لكن اختصاصيي الخط تدخلوا لرفع تقرير عن حالة الطفلة، أثبت أنها ماتت، نتيجة ارتطام رأسها أكثر من مرة بحائط. فحُكم على زوج الأم بالسجن عشر سنوات، على رغم محاولات الأم حمايته. ويذكر المشرف الفني، شادي سالم، مكالمة تلقاها من فتاة عمرها 16 سنة، تركتها أمها في بيت صديقتها، هي وشقيقتها لرعايتهما، لأنها ستتزوج وزوجها يعارض وجودهما. فاكتفت الصديقة باستضافة الأخت الصغرى، وتركت الكبرى بالقرب من كشك لبيع الحلوى والسكائر وانصرفت. وتروي الاختصاصية النفسية، إيمان محمد إبراهيم، دامعة:"تلقيت مكالمة من أم تستنجد بنا لمساعدتها في الحصول على قرار بعلاج رضيعها على نفقة الدولة. وبعد طول عناء، نجحنا في استصدار القرار. وعندما سارعت إلى الهاتف لأبلغ الأم بالخبر السعيد، قالت لي إن الله قد استرد وديعته". ومثلما"خط النجدة"حافل بالأهوال والمآسي، هو حافل أيضاً بالطرائف، كالصبي الذي كان يبكي بسبب رفض أبيه شراء موبايل بكاميرا له، أو الأب الصعيدي الذي طلب مساعدة"الخط"لإجراء عمليات ختان لبناته الثلاث، وهو لا يعلم أن المجلس القومي للطفولة والأمومة هو رافع راية مناهضة ختان الإناث في مصر. شكاوى الأطفال والكبار الخاصة بالأطفال، وجميعها يتصل بحق أصيل من حقوقهم، يتعامل معها فريق من الاختصاصيين لدى"خط النجدة"، ومراكز الخدمة النفسية التابعة لهيئة التأمين الصحي، ومركز الخدمة النفسية في كلية الآداب بجامعة عين شمس، فضلاً عن جمعيات أهلية متخصصة. والغرض من خط نجدة الطفل أن يكون ترجمة لتعميم مفهوم حقوق الأطفال، ويؤمّن مشاركة الجميع في وضع آليات لتطبيق نظام حماية للطفل وتقويمه، إضافة إلى كشف ثغرات القانون، ورفعها إلى المسؤولين، والعمل على معالجتها. ومنذ تفجر مأساة الطفلة هند 12 سنة التي اغتصبت وحملت وأنجبت سفاحاً، بدأ"خط النجدة"يستقبل كماً ضخماً من المكالمات، من شباب وشابات يعترفون، بأنهم اغتصبوا أو تعرّضوا للتحرش وهم أطفال، ويحملون معاناتهم الصامتة معهم. أما الأطفال، فتؤكد شاهين إن الخوف والحرج يمنعانهم من الإبلاغ بما حدث، وما زال مشوار حقوق الطفل المصري طويلاً لكنه على الأقل بدأ، ولو عبر الهاتف.