حروب كثيرة تدور على الشاشة الصغيرة ويتابعها المشاهد بدرجة عالية من الشغف لمعرفة ما حدث، وكيف حدث، ولماذا؟ هي حروب مستعادة صارت جزءاً من التاريخ وصفحاته المطوية في الكتب الورقية نراها في الصورة أكثر حدّة وأشد إثارة للمشاعر، إذ هي تضعنا مباشرة في صلب ما جرى وتستدرج انفعالاتنا ومشاعرنا الفردية والجماعية على حد سواء. حروب الشاشة الصغيرة، الوثائقية والآتية إلينا من رفوف مكتبات الأرشيف يحدث غالباً أن تقدم لنا في صورة انتقائية على شكل مقاطع مجتزأة يتولى التعليق المضاف حديثاً الربط بين فقراتها وأجزائها كي تكون مفهومة وقابلة للاستعادة في وعينا. ومع ذلك تمكن ملاحظة أن هذا الاجتزاء"الضروري"فنياً يتسبب في معظم الأحيان في جعل العرض التلفزيوني لتلك الوقائع الساخنة يأخذنا إلى حيث يريد المعدّ ويوصلنا إلى قناعات فكرية مقصودة سلفاً، وتنسجم مع توجهاته وموقفه من أطراف تلك الحروب التي صارت ماضياً ولكنها لا تزال تعكس نفسها في امتدادات سياسية راهنة لها القدرة على إثارة الخلافات والتباينات. هكذا رأينا ولا نزال أحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية ووقائعهما، واندفعنا مع الصورة والتعليق إلى تأييد هذا الطرف أو ذاك وإلى رؤية هذه الواقعة أو تلك بالتفسير الذي يقدمه التعليق بالذات، إذ تتحول الواقعة إلى قراءة سياسية خاصة تنتسب إلى رأي صاحبها ولا تنتسب إلى الحقيقة بالضرورة. هي مسألة تنتمي إلى إشكالية العلاقة بين الصورة والتعليق أو بالأدق بين التسجيل المرئي المحايد وغير القابل للتغيير، وبين التعليق الذي يجسد الرأي ويعبر عن الموقف السياسي المسبق. وهو تباين يفترض رؤية الحدث من زوايا لا تتعلق بالماضي وحسب، بل بالراهن الذي يرتبط مع ذلك الماضي المصوّر ويتأثر به إلى حدود بعيدة. هي إشكالية مستمرة ولا تنتهي، ولا حلّ لها سوى تقديم أكثر من رأي لمناقشة المرئي وإلقاء ضوء على أحداث الصورة وجزئياتها انطلاقاً من حقيقة أن الوثيقة المصورة جزء من الحقيقة، ولكنها ليست الحقيقة بالتأكيد. فالحقيقة شيء آخر له علاقة برؤية الصورة في شموليتها ومن زواياها كلها، أي عبر كل وجهات النظر والمواقف، وبالضرورة المصالح التي حكمت وتحكم رأي هذا الطرف أو ذاك، والتي تنحدر إلينا من التاريخ المصور وتفرض وجودها وما يرتبط به من مواقف وامتدادات سياسية وفكرية.