أخذ نقولا زيادة من الغرب علمه ومنهجيته ومن الشرق أصالته وحكمته. ناضل من أجل شرق منفتح وليبرالي وعاش مآسيه وهزائمه ونجاحاته، وواكب مصائبه الكبرى في الحرب العالمية الأولى والصراع من أجل بلاده في فلسطين ثم نكبتها والحرب العالمية الثانية وتهجير الفلسطينيين، ثم الحرب اللبنانية بعد اعتماده لبنان وطناً له. لم يعرف الكلل، فكان له ما ينيف عن خمسة وثلاثين كتاباً ومئات المقالات والندوات وآلاف الأحاديث. ولم يعرف الاستقرار في بلد، فمن دمشق حيث عاش طفولته إلى القدس حيث نشأ ودرس ودرّس إلى لندن حيث تخصص، إلى ليبيا حيث عمل، فإلى بيروت حيث استقرّ أستاذاً في الجامعة الأميركية. ومن هذه المحطات الكبرى كان أستاذا جامعياً زائراً في بريطانيا والهند ونيجيريا ومصر والأردن. وهذا التنقل من أجل العلم صاحبه تنقّل كالرحالة العرب القدامى، فمشى في شبابه على الأقدام متنقّّلاً في أرجاء بلده فلسطين وفي لبنان مجتازاً السهول والوهاد والجبال والوديان والقرى والمدن متأمّلاً جمال الطبيعة مكتشفاً كنوز حكمتها، ولم يضاهيه أحد في هذا المضمار في القرن العشرين سوى أمين الريحاني. ما قام به نقولا زيادة من رحلات وما دوّنه عنها يشكّل استمرارية لتراث انتشر في عصور العرب والمسلمين الزاهية. فقد أخذ العرب عن اليونان هذا التوجّه نحو علم الجغرافيا الذي يجمع العلم إلى الرحلة وحتى التاريخ. واشتهر هؤلاء الجغرافيون - الرحالة منذ العهد العباسي وسطّروا آثاراً تجمع العلم من جهة إلى المشاهدات الشخصية من جهة ثانية إلى استنساخ معلومات من سبقهم من جغرافيين رحالة من جهة ثالثة. وبعدما كان تراث الأدب الجغرافي مقتصراً على مشرق العالم الإسلامي ووصل إلى أفضل نتاج له في القرن العاشر الميلادي مع كلٍّ من ناصري خسرو والمقدسي اتخذ هذا العلم أو هذا النوع من الأدب منحى أكثر شمولية مع الجغرافيين - الرحّالة المغاربة والأندلسيين منذ ابن حوقل والإدريسي وابن جبير وغيرهم، بخاصة الرحالة الذين قادتهم الحشرية زمن الحروب الصليبية للتعرف إلى واقع العالم الإسلامي آنذاك. ولم يتوقّف علم الجغرافيا وأدب الرحالة، اللذان لم تنفك عراهما عن بعضهما بعضاً في العهود الإسلامية التي تلت الحروب الصليبية، بل ازدهرت وقدّمت أسماء لامعة يأتي في طليعتها ابن بطوطة. واستمر نتاج الرحلة في العهد العثماني على طريقة السلف، ولكن طرأ تحوّل جديد في الأدب العالمي، نقل أدب الرحلة من حالة الوصف الجغرافي المستنسخ، والمشاهدات المستنسخة أحياناً كثيرة، إلى نتاج أدبي رفيع جداً مع الأدباء"الرومانسيين"وپ"الرمزيين"الأوروبيين الذين جابوا الشرق بحثاً عن طرائفه وغرائبه فقدّموا مع أدباء وشعراء كبار من أمثال لامارتين وفيكتور هوغو وغيرهما، والقائمة طويلة من الشعراء الخالدين في الأدب العالمي، نتاجاً فخماً يجمع المشاهدات العلمية - التاريخية الاجتماعية الثقافية إلى الوصف الشاعري المرهف الذي، وللمرة الأولى، وبقلم أدباء غربيين، يحسن إبراز سحر الشرق. هذا التوجّه الجغرافي العلمي"السوسيولوجي"الأدبي كان له صداه في عصر النهضة العربية وكان من أبرز ممثليه أمين الريحاني مع غلبة الأدب فيه، ونقولا زيادة مع غلبة للتاريخ فيه. في الكتاب الصادر في عنوان"حول العالم في 76 عاماً، رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الأفريقي 1916-1992"محاولة لا بأس بها من جانب نوري الجرّاح عام 2007 لجمع رحلات نقولا زيادة ومنشوراته المنشورة سابقاً بطريقة متناثرة في صحف ومجلات وكتب في تواريخ شتى من حياته ونشرها في كتب صادرة عن"دار السويدي"في ابو ظبي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في لبنان. يبدأ الكتاب بنشر ما دوّنه نقولا زيادة عن طفولته في دمشق عن السنوات 1907-1916 وكيف قضى والده أثناء الحرب العالمية الأولى وإعانة أمه له ولأخوته ووضعه العائلي في تلك السنّ. وطبعاً لا علاقة لهذا الفصل بمضمون الكتاب، إذ هو مذكرات الطفولة فقط. ثم تلي ذلك أولى رحلات زيادة في فلسطينولبنان وسورية مروراً بجبال لبنان، وأحياناً كثيرة سيراً على الأقدام. وقد بقي زيادة حتى نهاية حياته، متلذذاً بمشاهداته من علو جبل حرمون، وكذلك في جبل صنين وجبال الأرز في لبنان وفي كلّ المصايف اللبنانية. وأعتقد بأن ما كتبه عن لبنانوفلسطين وسورية هو أفضل وأجمل وأهم وأعمق مما كتبه عن بلد عربي من مشاهدات وما جرى له من طرائف مع الأمن العام الفرنسي ورجال الشرطة الذين حسبوه جاسوساً. ويجمع زيادة في هذا الفصل الجغرافيا إلى التاريخ إلى العادات والتقاليد والتيارات الثقافية والسياسية إلى التأريخ كشاهد عيان، إلى الأدب الرفيع والصور الشعرية التي تضاهي ما حرره الأدباء الأوروبيون عن لبنان وسورية وفلسطين. أمّا في وصفه القاهرة التي يعتبرها المدينة العربية الوحيدة بالقياس على دمشقوبيروتوالقدس، فيجنح الكاتب أكثر إلى التاريخ والوصف السياحي مع محطات ثقافية ومشاهدات من علو النيل وكأنه في القبة السماوية. في وصفه لندن وأوروبا وألمانيا يختزل الحال الثقافية والسياسية أكثر مما يتوقف عند معالم الطبيعة ويخصّ باريس بغزل الشباب الولهان. وأهمية ما يكتبه عن الحال السياسية أنّه يمسك فيها باللحظة السياسية والمشاهدة الحيّة لتنامي صعود النازية في ألمانيا بخاصة وأوروبا بعامة ولاحتفالاتها مع استطرادات عن علاقات اوروبا بالشرق وبالحال الفلسطينية آنذاك. وبالنسبة الى ليبيا، فما يدوّنه نقولا زيادة هو تأريخ لليبيا وانطباعات عنها أكثر منه وصفاً جغرافياً لها. وكذلك قل في مالطا وبلاد السند والهند. أما ما يخصّ شرق الأردن وتدمر فيتساوى في وصفه مع ما كتبه عن فلسطين. وقد استوقفني كلامه في ندوة عن الإسلام والقومية في كراتشي، إذ تطرق الى العلاقة بينهما، يقول:"ما دام الإسلام يعتبره المسلمون قومية، أي أنّ هناك أمّة إسلامية، فكيف يمكنهم أن يقبلوا بقومية أخرى، هي القومية العربية. ولا يمكن القومية العربية أن تقف على رجلها وأن تصبح نقطة انطلاق إلاّ متى تخلّص العرب من تفكيرهم الخاطئ بأن القومية العربية والإسلام شيء واحد"."فأين يقف العربي المسيحي والأفريقي الوثني؟ ونضيف الى قول زيادة: أين يقف الذين يؤمنون بالله وبالإسلام ولا يرتاحون لمبدأ الأمة الإسلامية الذي يجمع أعراقاً متناقضة في حضارة متباينة وذهنيات متباعدة وأذواق متنافرة وأشكال مستهجنة ودرجة ذكاء متفاوتة وما إلى غير ذلك. وكان لإيران ومدنها الحضارية والعراق والخليج، وللحواضر الإسلامية الشهيرة طشقند وسمرقند وبخارى وخيوه وكذلك الشمال الإفريقي نصيبها من رحلات نقولا زيادة. في كلّ هذه الرحلات، وحتى لا نغالي اللقاءات أحياناً في بلدان الشرق والغرب تستوقفك شخصية نقولا زيادة المثقف جداً الظريف الناقد العقلاني الضليع في التاريخ القديم والوسيط والحديث وبالعلم الجغرافي وبالفكر عموماً. وأكثر ما يستوقفك فيه هذا الميل الى عقد اللقاءات الثقافية في كلّ بلد يزوره والاجتماع بكبار أعلام الفكر والأدب والتاريخ في البلدان العربية منذ كان شاباً. وقد رافقته هذه الميزة طوال حياته، إذ انه من بين كلّ المؤرخين، وهو بالدرجة الأولى كان مؤرخاً، هو الشخص الوحيد الذي جمع، حتى السنة التي سبقت وفاته، الصداقات الأكثر في العالم العربي. وكما يذكر التعريف بالكتاب، تشكّل المقالات المنشورة سجلاً شخصياً موجزاً للقرن العشرين. والمعلومات المتنوّعة والانطباعات الشخصية تمتزج في رحلات نقولا زيادة باللوحات الفنية وبالوجدان وبالشاعرية وبصور التاريخ في تجاربه الحلوة والمرّة، يصوغها في أسلوب سهل مبسّط منعش متين السبك بليغ الكلام. إنّه نقولا زيادة المحدّث اللبق والعربي العقلاني من دون عقد طائفية ودينية. * كاتب لبناني