تشغل حياتنا نحن العرب هموم واهتمامات بالقضايا والأزمات السياسية الكبرى التي تتوالد وتتكاثر وتحيط بنا من كل صوب، حتى اصبحنا من اكثر شعوب الارض ادماناً على ما نسميه بالقضايا المركزية والمصيرية. ووسط كل هذا الولع بالتشبث بتلك القضايا ومع عجزنا الواضح عن حلها، تبرز حقيقة اساسية، وهي اننا بسبب انشغالنا بتلك القضايا غفلنا عن قضايا اخرى لعلها اكبر واكثر اهمية لحياتنا ومستقبل وجودنا كبشر، فعمّق تجاهلنا لها الهوة المادية والحضارية التي جعلت من اخفاقنا في حل القضايا المصيرية امرا ممكنا. خذوا مثلا قضايا الديموقراطية والاصلاح السياسي والحريات وحقوق الانسان والمجتمع المدني وتحقيق العدالة والتكافؤ الاجتماعي والتنمية البشرية. أليست كل هذه قضايا بديهية، تعبنا جميعاً من القول إن من غير تحقيقها لا يمكن للعرب ان يواجهوا الأزمات السياسية الكبرى التي تعصف بهم. ومع ذلك فإن أموراً كهذه تبقى دائما خارج الاجندة العربية الحقيقية، في الوقت الذي اصبحت مسلمات، ولم يعد هناك شك في أنها لا تؤدي الى تطوير المجتمعات العربية وانتشالها من دائرة التخلف والجمود فقط، بل هي قادرة ايضا على تعزيز عناصر القوة والمكانة لدى كل شعب وأمة. كثيرون يعطون تحرير فلسطين والعراق ودحر المشروع الصهيوني هنا وهناك الاولوية القصوى. لكن أليس الانسان وحياته ومستقبله وحقوقه وكرامته هي التي يجب ان تأخذ هذه الاولوية في العمل الجاد، في الوقت الذي تدل المؤشرات كافة على ان نوعية الحياة الانسانية للفرد العربي هي التي اصبحت مهددة في الصميم، حتى من دون مقارنة ذلك بنوعية الحياة الانسانية في عوالم اخرى؟ بالامكان مثلا وعلى سبيل الجدل فقط، تأجيل استحقاقات الديموقراطية والاصلاح والتعددية والمشاركة الى حين، ولكن ماذا عن الفقر والبطالة والفساد وانتشار الجريمة وتعطيل حكم القانون؟ وماذا ايضا عن نقص المياه للشرب وللاستخدامات البشرية الاخرى، وتدهور البيئة والتلوث وتحول الشوارع الى امكنة لرمي القمامة وانتشار الامراض المرتبطة بها؟ وماذا عن الزحام في شوارع المدن العربية وسوء الادارات المرورية وضعف انظمة المواصلات التي تقتل سنوياً آلاف البشر وتحول حياة ملايين آخرين الى رحلات عذاب يومية؟ وماذا عن الفكر والثقافة والفنون التي أصبحت مجرد وسائل للاستلاب وبث الضحالة وحتى الجهل؟ والاهم من كل ذلك، ماذا عن الشعور المتزايد باللاجدوى وبانعدام الامل بالمستقبل والاستسلام للقدر، بخاصة عند الاجيال الجديدة التي لا تمد بصرها نحو الخارج فقط، بل تدفع احيانا كثيرة حياتها ثمنا، وهي تحاول عبور البحار خلسة سعيا وراء فرص افضل بالحياة؟ حسنا، هل يجب ان ندع كل ذلك ايضا جانبا طالما ان الاولوية يجب ان تظل للقضايا الكبرى ولابقائها جذوة مشتعلة لتأكيد الذات القومية المضطربة، وأهداف الأمة السامية، ام ان نلتفت الى الاخطار والمصائب المحدقة بنا والتي تهدد وجودنا في الصميم؟ لنأخذ مثلا ايضاً موضوع الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية التي أصبحت الشغل الشاغل للعالم بسبب الآثار الخطيرة التي تهدد الحياة البشرية والطبيعة. فإذا أدركنا ان الارض العربية تشكل حوالي عشر مساحة اليابسة وان سكانها يشكلون حوالي 7 في المئة من سكان المعمورة فإن بإمكاننا ان ندرك ايضاً حجم التهديدات التي يتعرض لها الانسان العربي بسبب هذه التغيرات الدراماتيكية، وبخاصة في موضوعين أساسيين هما التعرية الساحلية الناتجة عن زيادة نسب مياه البحر التي تهدد بغرق مدن ومناطق بأكملها، والتصحر المتزايد الذي يفقد الدول العربية مساحات شاسعة من اراضيها الزراعية. إن اول مشكلة تواجهنا في سعينا للإلمام بأبعاد هذا التهديد هي شح المعلومات وانعدام البحث العلمي عن التغيرات المناخية في المنطقة العربية والذي تعتمد غالبيته على دراسات دولية تضعها في الاطار الاوسع إما الشرق اوسطي أو الافريقي أو المتوسطي. فمثلا لا تتوفر دراسات حديثة دقيقة عن التغيرات المناخية في المنطقة العربية بخصوص درجات الحرارة ومعدلات الامطار ومعدلات التبخر والاتجاهات المناخية عموماً وتأثيراتها الطبيعية على الانسان والحيوان والنبات، بكل التنوع البيولوجي فيها، مما يصعب معه تصور وادراك حجم المشكلة، بل ايضا الوصول الى استنتاجات صائبة ووضع سيناريوهات مستقبلية لمواجهتها. كما ان العجز يبدو واضحاً في المعلومات التي تتعلق بالتغيرات المناخية على مستوى الكرة الارضية وتأثيراتها المتوقعة على المنطقة العربية، خصوصاً ان هذه التبدلات أصبحت تجري بوتائر اسرع مما كانت عليه وما كان متوقعا واحيانا بشكل مفاجئ. ولعل اهم دليل على حجم التغيرات المناخية المتوقعة في المنطقة يأتي من ان الصحارى تشكل 88 في المئة من مساحة الوطن العربي التي تبلغ 314 مليون كيلومتر مربع فيما تزحف الرمال بفعل تأثيرات الاحتباس الحراري على ال12 في المئة من الاراضي الباقية. كما ان جميع الدول العربية تملك سواحل بحرية هي عرضة، بشكل او بآخر، الى عمليات النحت الجارية في السواحل بسبب زيادة مستويات مياه البحار الناتجة عن ارتفاع معدلات ذوبان الثلوج والتي تنحو نحو الزيادة بسبب التغيرات المناخية العالمية. ان غالبية المعلومات التي نشرت أخيراً مثلاً عن التأثيرات المتوقعة على مصر جراء التبدلات المناخية جاءت من تنبؤات مؤسسات دولية، كالبنك الدولي، والتي حذرت من إمكان تعرض معظم المدن الساحلية ومنها الاسكندرية وبورسعيد ودمياط وجزء من دلتا النيل للغرق مع نهاية القرن الحالي، بسبب زيادة مستوى المياه في البحر المتوسط، بما يعادل متراً او اكثر. واذا كانت التوقعات تشير الى وصول سكان مصر الى حوالي 160 مليون نسمة منتصف القرن، فبالإمكان تصور الكارثة المحدقة بأكبر بلد عربي، لو صح وقوع جزء بسيط من هذه التنبؤات. ان ما يعزز من هذه المخاوف وتأثيرات التغيرات المناخية على باقي الدول العربية، كما حصل في عمان أخيراً، هو اولاً حقيقة زيادة نسبة ذوبان الجليد خلال العقد الماضي بحوالي بوصة واحدة سنويا، وثانياً من ان وتيرة سرعة التغيرات المناخية هي اكبر مما كانت عليه خلال كل القرون الماضية وان البعض يتوقع تغيرا جذريا وسريعا في المناخ العالمي بما ينذر بتحولات كبرى ربما في غضون عقود من السنين لا أكثر. ادرك ان كثيرين غير مستعدين لاستيعاب الأمر وقبوله، البعض منهم يبرر ذلك بغياب نظرية ذات صدقية بشأن منظومة المناخ العالمي، وآخرون لأسباب تتعلق بالتشبث بالافكار القديمة، سواء الايمان بنظرية التوازن الطبيعي، او بثقافة الاتكال والقدر، وغيرهم يضعون الامر برمته في اطار نظرية"المؤامرة"على العرب. الا ان المؤكد ان المنطقة العربية تواجه مخاطر جمة مع ارتفاع كل درجة حرارة على الارض ومع ارتفاع كل متر في البحار والمحيطات. واضافة الى ان المنطقة العربية، سواء بسبب اتساعها او طبيعتها الجغرافية، ستكون من اكثر المناطق تعرضا للاخطار الناتجة عن التغيرات المناخية الحادة، فانها لا تبدو مستعدة لوضعها على سلم اولوياتها ومواجهتها بأي وسيلة كانت، إما لأنها مشغولة باهتمامات اخرى تجدها اكثر الحاحاً، أو لأنها تجد الأمر كله شيئاً من الخيال العلمي او حتى الفانتازيا غير القابلة للتصديق. هناك الكثير الذي ينبغي عمله، أولاً من جانب النخبة، وخاصة العلمية، التي عليها ان تمنح القضية اهتماما اكبر في الدراسة والبحث وفي النقاش، مما يمكن ان يخفف من وطأتها، وثانياً من قبل الجمهور ومنظمات المجتمع المدني والاحزاب التي يجب ان تتبنى قضية التغيرات المناخية باعتبارها تحديات وجودية عليها النضال من اجل مواجهتها مثلها مثل المطالبة بحقوق الانسان والديموقراطية. لكن قبل ذلك فان من واجب صانعي القرار السياسي ان يدركوا ان تأثيرات التغيرات المناخية ليست من نوع تلك المخاطر والتهديدات التي يمكن مواجهتها بالانتظار والتلاعب والترحيل الى المستقبل، انما هي قضية حياة او موت لملايين من عرب الحاضر ومن اجيالهم المقبلة. مع ذلك اتمنى الا يقترح احد عقد قمة عربية طارئة، او خاصة، بالمناخ، كي لا تنضم هذه القضية الى باقي القضايا المصيرية التي تنتظر حلولا منذ عقود. فالمطلوب خطوات اكثر جدية، سواء على المستوى الوطني، او من خلال العمل الجماعي الاقليمي المنظم، او من خلال الاندماج في المنظومة الدولية التي يجب اقامتها للتعامل مع الاخطار التي تهدد بالنتيجة، البشرية جمعاء. * كاتب عراقي