لا أحد من اللبنانيين، مهما أفرط في التفاؤل، سيمنّي النفس بآذان صاغية راضية لدى فريقي 14 آذار و8 آذار، تندفع تلقائياً الى استجابة نداء المطارنة الموارنة الأخير قبل تعريض لبنان الى"الشر المستطير"الذي يسابق انتهاء المهلة الدستورية لانتخاب فخامة الرئيس العتيد... لا أحد يطرح اليوم تساؤلاً"بريئاً"من نوع: لمَ الأولوية، لفخامة الرئيس أم جلالة الوطن. فالانتخاب محطة حتمية لأي حل، يخرج البلد من كابوس المجهول الذي يسمى فوضى أو حرباً أهلية أخرى برياح"العرقنة". وإذ ساوى المطارنة بمكيال واحد، بين"من يتفرد ومَن يقاطع الانتخاب"، متعاطفين مع النواب نزلاء فندق الخمس نجوم،"السجن"، فانحيازهم الى روح الوفاق قد تسجله المعارضة نقطة في رصيدها، بمقدار ما ترى الموالاة في إصرار المطارنة الموارنة على اضطلاع مجلس النواب بالمسؤولية"الأخيرة"، تعزيزاً لدعوتها الى وقف تعطيل المجلس، ليكون انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية ديموقراطياً... إذا تعذّر التوافق في الأيام الأخيرة. وما لا يترك مجالاً لسجال يضاف الى ما يبدو مشاكسات يومية بين الفريقين، تتجدد ما ان تتبخر الآمال بعد ذهاب أي وسيط أو موفد، ان المطارنة أطلقوا نداءهم محمّلاً بمرارة اليأس التي قد تدفع بعض المنتقدين الى الحديث عن"تنصل"من تداعيات المرحلة المفصلية في الأيام العشرة التي ستلي الرابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر الجاري، لكأن المطلوب ان تصوّت البطريركية المارونية على مرشح مفضل، فتأخذ دور النواب. الأكيد ان مجلس المطارنة انحاز الى موقفه الثابت بضرورة مشاركة جميع النواب في التصويت، وتحميلهم مسؤولية أداء دورهم بوصفهم ممثلين للشعب، مؤتمنين على مصير لبنان قبل ان يكونوا قياديين في أحزاب أو تيارات، تتضارب مصالحها كما في أي بلد في العالم، في أي جمهورية أو مملكة أو إمارة، ولكن ليس الى الحد الذي يطيح بالكيانات والاستقلالات والسيادات، والروابط الجامعة بين ابناء الشعب الواحد. ولم يعد من مجال للإبحار في فسيفساء النيات والاستتباع والمحاور، والاتهامات التي لا تطعم اللبناني سوى بؤس اليوم وبئس الغد المنتظر على قارعة الصراعات الإقليمية المتضخمة من حول الوطن الصغير وفيه. هل أكثر، بعد، من التحذير من تفكك لبنان؟ مثل المطارنة يتطلع كل لبناني الى السماء، لعلها تمطر صحوة في... النزع الأخير، قبل سراديب المجهول التي لن يربح فيها أي فريق، أياً يكن من يتفهمه ويدعمه أو يزوده سلاحاً. إنه مصير البلد الذي وصفه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ب"معجزة"، وامتنع عن ذكر الحاجة الى"معجزة"ثانية لإنقاذها، بعدما بات جمع زعيمين يتطلب تدخل دول كبرى، فكيف بمآل الوفاق الذي لن يكتمل إلا برضا المتصارعين على شرق الأرض ومغاربها، وعلى تخصيب اليورانيوم والتبعية المنضبة بالدماء، وعلى العدو المنتصر بعداوات اللبنانيين. مفردات يأس من الساسة؟ لقد تحداهم منذ زمن بعيد ان يعطوا مَن يمثلونهم - بالمعنى المطلق - أي أمل ببرنامج هدفه الأول حفظ جلالة الوطن، رغماً عن طموحات أي زعيم، وعن فخامة الرئيس العتيد، أي رئيس، لأن أبسط واجباته صون الوطن وحماية البشر. وطن بلا بشر، هل يبقى جمهورية، ولو عادلة؟ كان بإمكان الزعيم ان يتخطى الأسلاك الشائكة، أي نصر يرفَع راياته على أشلاء بلد، ومصير أجيال تبحث عن رجالات بلد، لا تمتشق سيف الطعن في الضمائر؟ في خريف لبنان، يمكن ل8 آذار و14 آذار ان يمضيا الى حيث لا يريدان، الى صقيع الفراغ في موسم حرائق مشبوهة. ولكن هل يصدق اللبناني أنهما أقل غيرة على الجمهورية المنكوبة، من"إيمان"بوش بديموقراطيتها وحرص ساركوزي على سيادتها، وجنوح موسكو الى إنكار أي ازدواجية في الشرعية؟ سؤال مبسط، كالمفاضلة بين مصير وطن ومصير حكم أو نظام سياسي، بين إنقاذ شعب وإنقاذ مشروع. دنت ساعة الاختيار العصيب، ولا مفاضلة في أي جمهورية بين فخامة الرئيس وجلالة الوطن. إنها ساعة الحسم للبنانية جميع اللبنانيين الذين سيدفعون وحدهم ثمن الصدام الكبير.