بعد انقضاء الفصول الدامية من احداث نهر البارد وإثبات الجيش اللبناني قدرته في لجم النزعات الارهابية، تبدو قضية المخيمات الفلسطينية في لبنان اكثر من ملحة. فما حصل في الشمال يمكن ان يتكرر في الجنوب او في تجمعات فلسطينية اخرى، ولا غنى عن نظرة جديدة للعلاقة مع الفلسطينيين واسلوب حل معضلة المخيمات تتسم بالواقعية والابتعاد عن دروب الشعارات البائدة والمتجددة. وكان اتفاق القاهرة الذي وقع في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر 1969 بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية قد اعطى شرعية لوجود المقاومة الفلسطينية ووفر تسهيلات لعملياتها ضد اسرائيل، ما شكل في نظر الكثير من اللبنانيين انتهاكا لسيادة لبنان بما تضمنه من بنود تتعارض مع القوانين اللبنانية. وعلى رغم اعتباره في حكم الملغي بعد اخراج منظمة التحرير من لبنان في 1982، فقد استمرالعمل به ولكن وفق أطر مختلفة، وذلك عبر وجود الفصائل الفلسطينية المسلحة التي فرضت سلطاتها على المخيمات وجعلت منها جزرا معزولة عن الدولة اللبنانية، خارجة عن سلطتها. وقد اتفق هذا الوضع مع توجهات القيادة السورية التي ظلت تمسك بمفاصل السياسة اللبنانية وتختار الاوقات الملائمة لتحريك النزاعات بين الفصائل الفلسطينية وتوظيفها ضد هذا الطرف اللبناني اوذاك خدمة لمصالحها. ومن المفيد في هذا المجال التذكير بأن الفلسطينيين في لبنان حسب احصاءات غير رسمية، يشكلون 11 في المئة من السكان و يزيد عددهم على ال 400000 نسمة يتوزعون على اثني عشر مخيما مسجلا رسمياً ومعترفاً بها لدى الاونروا، بالاضافة الى اكثر من اثني عشر تجمعا سكنيا غير معترف بها. وهؤلاء لا يحصلون على حقوق المقيمين المعروفة في دول العالم ويُمنعون من ممارسة سبعين مهنة، على الرغم من حقيقة وجودهم على ارض لبنان منذ اكثر من نصف قرن، ومصيرهم معلق بقرار الاممالمتحدة المرقم 194 الصادر في 1948 الذي نص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى بلادهم او البقاء في دول اللجوء او المطالبة بالتوطين في بلد ثالث. وبقدر المبالغة في تمجيد حق العودة نظريا ودون اي امكانات عملية لخدمته، اتفقت الحكومات العربية والقوى السياسية على رفض مشاريع التوطين بحجة المحافظة على الكيان الفلسطيني من الذوبان في المحيط العربي. ولكن هل كانت كل تلك المشاريع شراً مطلقا؟ ألم تتفق الحكومة المصرية في عهد عبد الناصر مع وكالة غوث اللاجئين على"مشروع سيناء"لتوطين اللاجئين؟ وقد منحت الحكومة لوكالة الأونروا حق اختيار 230 الف فدان لاقامة المشروع بالاضافة الى 50 الف فدان للتطوير الزراعي، كما قُدّر عدد المستفيدين من المشروع ب 214 الف شخص. وكان ما حصل بعد ذلك ان تحالف الاخوان المسلمون والشيوعيون في غزة وردوا على فكرة المشروع بمظاهرات صاخبة كما أضرموا الحرائق واجبروا حاكم المدينة على مغادرتها الى العريش. وكان ثمن الرفض باهظاً: فالمواجهة مع الجيش المصري خلفت ثلاثين قتيلا فلسطينياً. وهناك ايضا مشروع" ماك جي"الذي قدمته لجنة التوفيق الدولية في 1949، وبموجبه تتعهد فرنسا وبريطانيا والولاياتالمتحدة بتقديم مشاريع تنموية للمساعدة في توطين اللاجئين في اماكن لجوئهم، بالاضافة الى تعهدها اعادة مئة الف لاجئ الى فلسطين. وقد اشترطت اسرائيل لقبول ذلك اعترافا عربيا بها. ان الرفض المبكر ربما كان مبررا بحداثة العهد بالصدمة وسطوة الشعار والاحساس الصارخ بالغبن، ولكن ما العذر الآن وقد بلغ عمق الجرح الفلسطيني قرابة ستين عاماً؟ لقد حال التمسك الظاهري بحق العودة ومخاوف التوطين - المبررة لبنانياً - دون توفير الشروط الانسانية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، والمسؤولية في ذلك تقع اولا على منظمة التحرير الفلسطينية التي استوطنت لبنان عسكرياً واحتلت اراضي واسعة من الجنوب ولم يكن ينقصها المال لبناء مؤسسات خدمية تتكفل تحسين ظروف الحياة في المخيمات، لكنها لم تفعل بل أتخمتها تسلحاً وشعارات. وقد تُركت المخيمات دون اي مساع حقيقية لانتشالها من بؤسها، ولم تتحمل الدول العربية نصيبها من المسؤولية سواء بالمساعدات الانسانية أو باستيعاب اللاجئين كمواطنين مؤقتين الى حين رجوعهم المؤمل الى وطنهم. وفي لبنان ظل السياسيون يتداولون مقولة شهيرة بانهم سيكونون آخر من يوقع على اتفاق سلام مع اسرائيل، مع ان الشعب اللبناني هو الاكثر معاناة من سلسلة الحروب معها. تلك المقولة، التي أجهل تاريخها ومبدعها، لم تخضع لنقاش عقلاني يثبت صلاحها المستمر ومطابقتها لمصلحة لبنان، وقد ساعد على ذلك ارتهان القرار السياسي اللبناني لدى سورية على نحو ما عرف بتلازم المسارين، قبل ان يلتحق به المسار الايراني، ما زاد الأمر صعوبة. ان تأخير الاتفاق لا يضمن تسوية عادلة لمشكلة المخيمات، بل ربما أدى الى مزيد من تقادم الاستحقاق أو نسيانه. ولو سلمنا جدلا بأن الخوف من التوطين هو ما يحول دون الاتفاق فهل تصح سياسة الانتظار بعد كل ما تكبده الجيش اللبناني من ضحايا وما تحمله الفلسطينيون من مآسٍ في معارك نهر البارد؟ ان الاوضاع في لبنان لاتحتاج الى مزيد من المكائد السياسية، بل الى الجرأة في هذه الظروف بالذات التي نشهد فيها تسابق الدول الكبرى المعنية بالصراع العربي- الاسرائيلي على ابداء المساعدة للحكومة اللبنانية في مواجهة قوى سياسية وعسكرية معارضة مستعدة للانقضاض عليها، تدعو بلغة صريحة الى حرب جديدة وتتحالف مع ايران وسورية. والجرأ ة المطلوبة هي المبادرة الى بدء مفاوضات مباشرة مع اسرائيل لحل عقدة المخيمات والاسرى اللبنانيين والجنود الاسرائيليين المختطفين لدى حزب الله. فالحرص على لبنان ينبغي ان يترجم بالعمل وليس بالشعارات والاكتفاء بالتحذير من التوطين والتقسيم ومراقبة ضياع الوطن. والوقت الآن اكثر من مناسب، خاصة مع بدء جهود دولية حقيقية لحل مشكلة مزارع شبعا التي جرى توظيفها لسنوات طويلة لاذكاء حالة الحرب مع اسرائيل. وبالاضافة الى ما تقدم، تشكل دعوة الولاياتالمتحدة الى مؤتمر دولي لحل النزاعات في الشرق الأوسط فرصة للبنان كي يطرح ملف اللاجئين الفلسطينيين على المجتمع الدولي باعتبار ان معالجته تساعد على مواجهة الارهاب وتسهم في حل مشكلة التسلح المستعصية في لبنان كما تضمن تطبيقا ملائما للقرارات الدولية. وهذا كله يصب في مصلحة السلام في المنطقة العربية التي لم تعد بعيدة عن اوروبا بفعل مخططات الإرهاب العالمي. ان المسؤولية عن مصير اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لا بد ان تكون تضامنية على مستوى الدول الكبرى التي شاركت في صناعة مأساة فلسطين. فالدول العربية التي رفضت قرار تقسيم فلسطين وتعهدت بنصرة الشعب الفلسطيني اخفقت في حرب 1948 التي جاءت نتائجها وبالا على الشعب الفلسطيني. فلو تُرك يواجه قدره في صراعه مع الصهاينة لكان حظه أوفر بكثير مما أتيح له في اتفاق اوسلو ولتجنب المتاجرة المتواصلة بمأساته. ان الدول العربية مطالبة الآن اكثر مما في السابق بمساعدة لبنان في تحمل مسؤولية اقامة اللاجئين، الى جانب الواجب الاخلاقي والسياسي المترتب على الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وجميع الدول القادرة على توفير وطن بديل للفلسطينيين يحقق لهم العيش بكرامة ويتفق مع ما ذهب اليه قرار الأممالمتحدة رقم 194 بنص الفقرة الثالثة منه الى حين يتحقق الحلم بعودتهم الى الوطن الأم. * كاتبة عراقية.