في مسميات القصة القصيرة، جاءتنا اخيراً "الفلاش فيكشن"، ثم "الصادن فيكشن"، ثم "القصة القصيرة القصيرة" ، وأخيراً القصة القصيرة جداً! بدأ هذا المشروعَ بعضُ الكتّاب والأكاديميين الأميركيين منذ العام 1983 وصولاً إلى هذه السنة. وفي كل أنطولوجيا من هذه التسميات كان المعيار الوحيد دائماً هو عدد الكلمات في القصة. لكن اللافت أننا في العالم العربي أدرنا الظهر للتسميات كلها، وتمسكنا بتسمية"القصة القصيرة جداً"، من دون أن نعرف متى سيأتي اليوم الذي نضيف فيه جداً ثانية وثالثة ورابعة إلى التسمية. وقد لا تشكل هذه التفاصيل التباساً جوهرياً، بمقدار ما يتعلق الأمر ببعض التنظيرات التي أخذت تطاول القصة القصيرة جداً، بصفتها جنساً أدبياً مستقلاً كما يبدو! واللافت في هذه التنظيرات، أنها تستعير كل ما كان يقال في القصة القصيرة من قبل، أي منذ أخذ هذا الجنس الأدبي في الانتشار والشيوع، وأصبح له قراؤه ومحبوه وكتّابه المحترفون، الذين تفرغوا لهذا الجنس تماماً، من دون أن يعتبروه خطوة أولى على طريق كتابة الرواية، كما حدث مع آخرين كثيرين، استهواهم مصطلح"عصر الرواية"أو"الرواية ديوان العرب الآن"! ثمة من قال إن القصة القصيرة جداً هي ومضة خاطفة، وهو ما قيل في القصة القصيرة من قبل. وثمة من أشار إلى التكثيف والشاعرية وما شابه ذلك، وكأنهم قاموا بتنحية أنطون تشيخوف وإدغار ألن بو جانباً. في مقدمة الأنطولوجيا التي نشرها جيمس توماس تحت عنوان"فلاش فيكشن"يتساءل عن الفرق بين القصة القصيرة جداً والقصة القصيرة القصيرة. وفي النماذج التي اختارها بلغت أطول قصة 750 كلمة، والأقصر 250 كلمة. وتبين أن الحد الأعلى كان مساوياً لأقصر قصة كتبها همنغواي، أما الأدنى فهو المعيار الذي وضعه الكاتب والأكاديمي والإعلامي الأميركي الراحل جيروم ستارن في مسابقته"أفضل قصة قصيرة قصيرة في العالم". ويقول توماس ان لا فرق بين القصتين سوى في عدد الكلمات، على ألا تكون القلّة مقصودة لذاتها، حيث تحتم الضرورة الفنية في أحيان كثيرة أن تصل الكلمات إلى ألفين، كما حدث مع القاص المتميز رايموند كارفر، وتحتم أحياناً أخرى الاختصار الفني، حيث تكون القلّة في هذه الحال"كثيرة"، أي ثرية فنياً ومعرفياً! إن التدقيق في هذه التفاصيل يجعلنا نتساءل عن سر ما يحدث في الوطن العربي أحياناً في الكتابة الإبداعية بعامة، والقصة بخاصة. فقد لاحظنا أن هناك كُتّابا يقررون كتابة القصة القصيرة جداً، لا من حيث الضرورة الفنية كما يبدو، بمقدار ما هو نزوع إلى التميز والاختلاف، وجواز مرور إلى الحداثة أو ما بعد الحداثة ربما! قلنا من قبل إن القصة لن تصبح جنساً ثانياً مغايراً حين تصل كلماتها إلى مئتي كلمة، بل تظل قصة قصيرة، تماماً كقصة يوسف إدريس التي تبلغ أحياناً ثلاثة آلاف كلمة أو أكثر. وهو ما يعني أنه لا داعي أبداً لكل هذا الضجيج والاستنفار والتنظير لجنس أدبي وهمي ومزعوم! فقصيدة التفعيلة التي حوربت بشراسة طوال عقود، وكانت بعض المجلات حريصة على تمييزها في التسمية بالقول إنها من الشعر الحر، أو من شعر التفعيلة، هذه القصيدة تمكنت في نهاية المطاف من إسقاط كل ما أضيف إلى جنسها في التسمية، واكتسبت مشروعية انتسابها إلى عالم الشعر، من دون إضافة كلمة واحدة تميزها عن القصيدة العمودية. ولعلنا نلاحظ الآن أيضاً أن دواوين قصائد النثر لا تُميز على أغلفتها بإضافة"النثر"إلى الشعر، وهو ما يحدث أيضاً في الصحف والمجلات، حيث تنشر قصائد النثر والتفعيلة والعمودية في باب الشعر من دون تميز. لكن الغريب هو أن شعراء قصيدة النثر العرب، هم أكثر الشعراء والكتاب حرصاً على تمييز هذه القصيدة، بحيث نراهم قد تفرغوا تماماً للدفاع عن مشروعيتها وحق انتمائها إلى الشعر، حتى لو كان ذلك رداً على أي تعليق عابر من أيّ كان. قصيدة النثر شعر، والقصة القصيرة جداً قصة، سواء بلغت كلماتها مئة كلمة أو ألفاً من الكلمات. فالمهم في الأمر كله، هو أن تتمكن القصة من الوصول إلى القارئ الموجود، وأن تنجح في إقناع القارئ بوجوده في القصة نفسها، في خلال همومه وأفكاره وقلقه وتساؤلاته وأحلامه التي تشتبك مع أحلام الآخرين. من الغريب أن نقرأ تشيخوف حتى اليوم بهذه المتعة كلها، وبكل هذا الاهتمام بما يثيره من قضايا ومشكلات وأسئلة، بينما لا يجد الواحد منا ذاته في الكثير من القصص العربية التي ترتكب باسم الحداثة وما بعد الحداثة، والتي تبدو مكتوبة وموجهة إلى الكاتب نفسه، وربما إلى بعض زملائه الكتاب والمثقفين. وهذا الكلام هو ما كتبه الشاعر الأميركي جون بار حول الشعر الحديث في أميركا، وهو ما ينطبق على الشعر في العالم كله، ورأينا أنه ينطبق على القصة القصيرة من دون تحوير أو تأويل في ما كتب. الفرق هنا، هو أن القصة القصيرة في كثير من بلدان العالم، ما زالت تحقق إنجازات كبيرة من طريق الإبداع البشري، بينما تراجعت في العالم العربي إلى حد ينذر بالخطر، بحيث أصبح ينظر إليها كتمارين أولية، أو تدريبات أساسية وضرورية قبل اقتحام عالم الرواية الذي أخذ يغري الكتاب العرب، بمن فيهم الكثير من الشعراء الذين استشعروا عزلة الشعر، وتذوقوا مرارتها. وبالعودة إلى آخر أنطولوجيا للقصة القصيرة القصيرة التي أصدرها توماس، نقرأ فيها نماذج في غاية الجمال والغنى والأهمية. وهو ما يشير إلى أن لكل جنس أدبي قيمته وأهميته إذا كان هناك من يخلص له ويتقنه ويعرفه جيداً، ويعرف كيف تتم معالجة القضايا الإنسانية من خلاله، الأمر الذي يعني بالضرورة التوجه إلى قارئ موجود من جهة، ويعني أن القارئ سيتمكن من اكتشاف ذاته في النص من جهة ثانية. وبعد، فإذا كانت هناك عشرات التسميات للقصة، باعتماد عدد الكلمات، فإن ذلك لا يعني أن هناك كتابة أو نصاً يدعى قصة قصيرة، وآخر جديداً ومغايراً يدعى قصة قصيرة جداً، أو قصة قصيرة قصيرة، أو"فلاش فيكشن"، أو"صادن فيكشن"أو غير ذلك مما قد يخطر في بال المهووسين بالتسميات. ثمة جنس أدبي واحد يدعى القصة القصيرة، سواء بلغت كلماتها ألفي كلمة، أم بضع مئات من الكلمات. فالمهم في الأمر هو أن توفر القصة المتعة التي يبحث عنها القارئ، وأن يجد القارئ فيها شيئاً مما يفكر فيه ويؤرقه ويثير فيه القلق والأسئلة والدهشة، وأن يتمكن القارئ من خلال هذه القصة كأي جنس أدبي آخر من العثور على زاوية رؤية جديدة للحياة ومفرداتها... زاوية ليست نمطية وشائعة ومتوارثة، ما يعني أنها زاوية فوقية أو مفروضة بالإكراه، وهي السمة التي تمتاز بها الكتابة البوليسية بالطبع! وأخيراً نقول إن من يتابع ما تضمه سلسلة الأنطولوجيا القصصية القصيرة القصيرة، أو"الفلاش"أو"الصادن"، يلاحظ فجوة كبيرة بين مفهوم الغرب لهذا النوع من القصص، وبين مفهوم الكثير من كتّاب القصة القصيرة جداً في العالم العربي. فبينما يحرص الكاتب الغربي على توافر العناصر الأساسية للقص في قصته، كالشخصية والحكاية أو الواقعة، لكي يكسو قصته العظمية لحماً حياً وحاراً، يوفر للقارئ متعته ويضعه في المناخ الملائم لأفكاره وأسئلته، نجد الكثير من كتاب القصة القصيرة جداً في العالم العربي يلهثون وراء جماليات تبدو مبهرة في شكلها الخارجي، ونراهم يزاحمون الشعراء في اللجوء إلى الإزاحات اللغوية، غير مدركين أن هناك فرقاً كبيراً بين لغة الشعر ولغة النثر أو السرد، الذي لا بد له من لغة بسيطة ومباشرة، تنطوي على جمالية في قوة التعبير والتأثير، ومدى قدرتها على حمل التيمة القصصية من دون تقريرية أو سطحية تحول القصة إلى تقرير إخباري. المشكلة هنا هي أن بعض شعراء قصيدة النثر تأثروا بالسرد، وبعض كتاب القصة تأثروا بقصيدة النثر، فشاعت فكرة تداخل الأجناس واختلاطها، ولم يفكر هؤلاء أن الجنس الأدبي قادر على التطور والتجدد من داخله... أي من دون أن نخلط بينه وبين جنس آخر. ولعل المتابع للرواية العالمية والعربية أيضاً، يدرك مدى التطور الذي أصاب هذا الجنس الأدبي، مع احتفاظه بمقومات حفاظه على النسق الذي يبقيه محتفظاً بخصوصية جنسه الأدبي، المغاير لجنس أدبي آخر. فلنكتب قصة في ألف كلمة أو في مئة كلمة، فإن هذا لن يغير في التسمية شيئاً، ولن يغير في جوهر الجنس نفسه شيئاً. وقد تكون"الكثرة"ضرورية حيناً، وپ"القلّة"ضرورية جداً حيناً آخر. ولكننا في الحالين لن نجد أنفسنا إلا أمام جنس أدبي واحد يدعى قصة قصيرة، من دون إضافات لتمييز واحدة عن أخرى، لأن هذا التمييز ليس سوى لعبة ذهنية تشكل مضيعة للوقت فقط!