ما نشهده ونتابعه من استعدادات عسكرية تركية يبين نية الأتراك في الدخول إلى كردستان العراق، مع ما يرافق ذلك من تسعير إعلامي لا عقلاني يهيّج الشارع ويصادر إمكانات التعامل الموضوعي المتزن مع الموقف. إضافة إلى القرار الغريب الذي اتخذه البرلمان التركي بشبه إجماع غير معهود، بإطلاق يد الحكومة، وربما بتعبير أدق، يد الجيش في التعامل الأمني مع الموقف في كردستان العراق لمدة سنة ما فحواه ممارسة الضغط المتواصل على التجربة الكردستانية هناك، وعلى الحالة العراقية بصفة عامة لمدة سنة كاملة، وذلك بالتنسيق مع القوى الإقليمية المتضررة الضالعة أصلاً في أعمال التخريب والتفجير والتفتيت على كل المستويات، بهدف إفشال التوجه الديموقراطي في العراق. إن كل ما نشهده يعكس بوضوح أبعاد الصراع الناجم أصلاً عن أزمة الهوية العميقة التي يعاني منها المجتمع التركي نتيجة العلمانية القسرية المفروضة على الدولة التركية منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك، وإلى يومنا هذا. والعلمانية بذاتها تجسد الحل الأمثل لتحقيق العدالة والاستقرار في مجتمعات المنطقة التي تتميّز بتنوعها الإثني والديني والمذهبي، لكن شرط أن تُقترن بالديموقراطية، وذلك يستوجب احترام المؤسسات التشريعية والإدارية والتنفيذية، كما تقتضي العلمانية وجود مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وسد الطريق أمام إمكان تحرك الجيش والمؤسسات الأمنية بالتدخل الفعلي، والسيطرة على الحكم، وهذا أمر مألوف في التاريخ التركي المعاصر. العلمانية التركية في صورتها الحالية هي - كما كانت منذ بدايتها - أداة لتشديد قبضة الجيش على الدولة والمجتمع. إنها تمنحه الصلاحيات غير القانونية للتدخل عند الحاجة التي يحددها هو، وهذا دور يتماهى إلى حدٍ كبير مع دور ولاية الفقيه في إيران، من جهة التناقض مع بدهيات قواعد اللعبة الديموقراطية. فالمجتمع التركي موزع بين توجهين أساسيين: الأول تمثله العلمانية العسكرية التي تتطلع نحو الغرب، وتسعى إلى الاندماج فيه، ولكن على قاعدة الاستفادة من المزايا من دون الالتزام بالواجبات والاستحقاقات. فعضوية الاتحاد الأوروبي في منظور هؤلاء تعني القوة الاقتصادية، والاستفادة من التقنية بأشكالها كافة، في حين أنهم يرتعدون هلعاً حينما يدركون أن العضوية ذاتها تلزمهم الاعتراف بحقوق المكوّنات القومية الأخرى، والكف عن أساليب القمع والقتل والتشريد وتعويض المتضررين، واحترام حقوق الإنسان بصفة عامة، سواء في الداخل التركي أم في المحيط الإقليمي. أما التوجه الآخر، فهو الإسلامي المعتدل الذي يسعى من أجل استلهام التجربة العثمانية من ناحية، ويعمل من ناحية ثانية على تحقيق صيغة من التوفيق بين التوجه الإسلامي والنزوع الأوروبي، إلا أنه يحرص على تبني إيجابيات المرحلة العثمانية وانجازاتها، ويصر في الوقت ذاته على التنصّل من السلبيات والجرائم التي ارتكبت في حق كل من الأرمن والكرد وغيرهما من الشعوب التي كانت خاضعة للحكم العثماني. إلا أن ما يستوقف هو أن أنصار هذين التوجهين الرئيسين لم يتمكنوا بعد من القطع الحاسم مع العقلية القوموية اللاعقلانية التي تعتقد - من دون وجه حق - أن كل من يحمل الجنسية التركية إنما هو تركي، ولا يحق له المطالبة بأي انتماء قومي آخر، وهذا مؤداه رفض الإقرار بأية حقوق لأي مكوّن من المكونات القومية غير التركية التي تضمها راهناً حدود الدولة التركية ككيان سياسي. ولعلنا لا نحتاج إلى جهد لنستنتج من ذلك أن الأكراد هم المعنيون في المقام الأول، فهم ما زالوا في منظور العقلية المتحكمة بمفاصل القرار السياسي التركي أتراك الجبال الذين ينبغي إرغامهم بكل الوسائل على الانحلال ضمن الجسد التركي المصطفى. إلا أنه مع ذلك لا بد من التنويه بحدوث نوع من التحول الإيجابي في موقف الإسلاميين، ونعني بهم على وجه التحديد أنصار حزب العدالة والتنمية، بخصوص الاستعداد للإقرار بحق الاختلاف بالنسبة إلى الآخر، وكما صرح به الرئيس عبدالله غل نفسه أثناء زيارته أخيراً إلى آمد ديار بكر، حيث أكد أهمية الاستفادة من التنوع الثقافي في تركيا، واعتباره بمثابة عامل قوة لا ضعف. ويبدو ان ذلك لم يرق لجنرالات المؤسسة العسكرية الذين أُرغموا على القبول بالأمر الواقع، وذلك بتبوء شخص له توجهات إسلامية مقاليد منصب الرئاسة التركية، هذا المنصب الذي كان منذ تأسيس الجمهورية حكراً على من ترشحه أو ترضى عنه مؤسسة الجيش. وهكذا بدأت مجدداً لعبة التلويح بالخطر الكردي، وجرى التهويل بما يمكن أن يمثّله حزب العمال الكردستاني من تهديد استراتيجي لأمن تركيا ووحدتها، وربما وجودها، بموجب مبالغات المؤسسة العسكرية وماكينتها الإعلامية. إن المؤسسة العسكرية التركية تدرك أن المسألة الكردية في تركيا هي أقدم بكثير من حزب العمال الكردستاني، وأكبر منه ولم تبدأ به ولن تنتهي بعده. ولن تنجح ابداً محاولات تقليصها، وحشرها في دائرة حزب العمال، ومن ثم اتهامه بالإرهاب، ليسري الحكم لاحقاً - وفق حيثيات المنطق المعكوس المهيمن على ذهنية اركان المؤسسة العسكرية التركية - على أكثر من 20 مليون إنسان، تلغى حقوقهم بنزوع رغبوي أعمى، لا يهمه مطلقاً استحالة تصنيف موقفه وتوصفيه حتى في اكثر نماذج الحكم لا إنسانية وعنصرية. إن تركيا الساعية اليوم لاستعادة توازنها الاقتصادي والسياسي، مطالبة قبل كل شيء بالبحث عن أسباب أزماتها، ومعالجتها، بعدما تبيّن لها عقم المعالجات العرضية التي ربما تمكنت من تأجيل الاستحقاقات، لكنها لم ولن تفلح في الغائها. وإذا كان حزب العدالة والتنمية جاداً في مساعيه، ويرغب حقيقة في اخراج تركيا من دوّامة الأزمات، فعليه أن يحزم أمره، ويقرر مواجهة المسائل بجرأة موضوعية، وأن يعترف بالمعطيات والوقائع، ويعمل على معالجتها على قاعدة احترام الخصوصيات، والإقرار بحق الآخر المختلف"وكل ذلك يستوجب الحوار الهادئ المتزن مع المعنيين الفعليين بالمسألة. تركيا اليوم مطالبة بالتصالح مع الذات أولاً، والانفتاح الجاد على الخصوصيات القومية المتباينة التي يتميز بها مجتمعها. أما لعبة إثارة الانفعالات، وافتعال الهستيريا، والإصرار على الخطوط الحمر اللاعقلانية، في سياق تعاملها مع مختلف المسائل، ومنها المسألة الكردية والأرمنية والقبرصية واليونانية، أو في خلافاتها الحدودية مع ايران وسورية"وغير ذلك من المشكلات التي تستوجب الحل، فإن كل ذلك لن يؤدي سوى إلى مزيد من التعقيد، وبعثرة الجهود في اتجاهات متعارضة مع مصالح تركيا بالذات، ومصالح دول المنطقة وشعوبها. وفي ما يخص الأزمة الراهنة، لا بد من أن ينصت الحكماء في القيادات التركية إلى صوت العقل، ويتعاملوا بصورة ايجابية مع الدعوات العقلانية الصادقة، وهي صدرت عن برلمان كردستان، ورئاسة الإقليم، ورئاسة حكومة اقليم كردستان، والرئيس العراقي نفسه، وطالبت جميعها بضرورة حل المسائل عبر الحوار الموضوعي الهادئ البعيد من تشنجات لغة التهديد والوعيد التي أدت باستمرار إلى مزيد من التعقيد والتنافر، في حين أن الحوار السياسي العقلاني، المستند إلى الاحترام المتبادل، يظل دائماً المخرج الأكثر أمناً وعطاء لمعالجة كل المعضلات. الدكتور عبدالباسط سيدا - بريد إلكتروني