من دون مجازفة يمكن القول إن وراء عجز تركيا المعاصرة عن التكيّف مع محيطها الأوروبي، الذي تنتمي إليه جغرافيا وتصبو إلى الانتماء إليه حضارياً، يكمن عائقان جديان: ثقل وزن الفلاحين فيها الذين ما زالوا يمثلون أكثر من 60 في المئة من السكان، فيما لم يعودوا يمثلون في دول السوق الأوروبية الموحدة إلا 8 في المئة، وثقل ماضيها العثماني الذي أخذ ثأره من الكمالية في الخمسينات على يد جلال بايار وعدنان مندريس اللذين ألغيا ترشيد وعلمنة التعليم وشجعا الزوايا والدراويش على حساب تحديث المؤسسات والذهنيات الذي دشنته الكمالية منذ العام 1924. تتجلى الرواسب العثمانية اليوم في كراهية الآخر المختلف دينياً أو قومياً وهي مستشرية لدى الاصوليين الاسلاميين والعلمانيين الكماليين سواء بسواء. شاهد الاثبات على تغلغل هذه الرواسب في شعور ولاشعور النخبة التركية هو الموقف العثماني بامتياز من المسألة الكردية. في الواقع وقفت تركيا العثمانية من الآخر موقف الإبادة الجسدية كما فعلت مع الأرمن في 1915، أو موقف الابادة الثقافية كما فعلت مع العرب طوال الاحتلال العثماني، إذ فرضت عليهم التتريك، أي اقصاء العربية من الإدارة والتعليم. الموقف نفسه تقفه تركيا الكمالية اليوم من اللغة الكردية التي ما زالت مستبعدة من الإدارة والتعليم، وكانت بالأمس القريب مستبعدة من التخاطب. لا وجود على حد علمي لوصفة سحرية تساعد الأتراك على التحرر من أثقال ماضيهم العثماني. لكن، لا خيار لهم، إذا كانوا جادين في الاندماج في بوتقة الحضارة الأوروبية الغربية، في التحرر المتسارع منه. الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل على هذا الطريق تبدأ بحل المسألة الكردية حلاً عصرياً على غرار حل المسألة الايرلندية في المملكة المتحدة والمسألة الباسكية في اسبانيا، وذلك يتطلب: 1- الاعتراف بوجود مسألة كردية، أي قومية كردية متميزة ثقافياً عن القومية الطورانية، والتعامل معها بمنطق الحقبة الذي لم يعد يتسامح مع هضم حقوق الأقليات الدينية أو الاثنية أو اللغوية. 2- الاعتراف بلغة الأقلية الكردية حوالى ثلث السكان كلغة ثانية، على غرار اعتراف إسرائيل منذ الخمسينات بلغة الأقلية العربية أقل من خُمس السكان كلغة رسمية ثانية، وعلى غرار اعتراف دول السوق الأوروبية الموحدة أخيراً بلغات ولهجات الاقليات فيها. 3- الاعتراف التدريجي للأكراد بحكم ذاتي إداري، ثقافي واقتصادي. ففي المستقبل المتوسط لن يقبل أكراد تركيا ولن يقبل الرأي العام الدولي ان تحصل كردستان التركية على أقل مما حصلت عليه كردستان العراقية، التي ستكون محكومة ذاتياً وربما كياناً فيديرالياً في الجمهورية العراقية الفيديرالية. تركيا العلمانية الديموقراطية تظلم نفسها عندما تعامل أكرادها معاملة إيران الثيوقراطية التوتاليتارية لأكرادها. 4- اعتماد مخطط تنموي شامل لكردستان تركيا لمكافحة الأمية والبطالة 40 في المئة من السكان النشطين، وباختصار لخلق طبقة وسطى كردية تكون صمام أمان ضد التطرف والعنف ومفاوضاً شرعياً لأنقرة تأميناً لحقوق الأكراد الثقافية والإنسانية في إطار الجمهورية الكمالية. 5- السحب التدريجي لقوات الجيش من المناطق التركية وتعويضه شيئاً فشيئاً بقوى أمن كردية لإشعار الأكراد بأنهم مواطنون لا رهائن. 6- انتصرت أنقرة على حزب العمال الكردستاني، لكن بقي عليها أن تنتصر على نفسها، أي أن تتحكم في انتصارها عبر إعادة بناء الثقة مع الأقلية الكردية، إذ لا شيء يمكن تحقيقه في مناخ الشك والعداء المتبادلين. كل إذلال للأكراد المهزومين هو تعميق مزدوج لابتعاد تركيا عن أوروبا وللجراح الكردية، وتالياً زرع بذور حرب جديدة أشد ضراوة. * كاتب تونسي مقيم في باريس.