للأكراد في شمال العراق حكم ذاتي. لهم حكومة للإقليم، وأدوات حكم من إدارات ومؤسسات وقوى مسلحة. لقد بدأ هذا الحكم جنينياً في مطلع تسعينات القرن الماضي، كنتيجة لهزيمة الجيش العراقي في الكويت، وبفعل الرغبة الأميركية، في ظل إدارة بوش الأب وإدارتي كلينتون، بمحاصرة نظام صدام حسين وليس إسقاطه. وصار هذا الحكم، حالياً، دستورياً وقانونياً، في ظل الوضع العراقي الجديد. واستفادت الحكومة الكردية الإقليمية من الدستور العراقي الذي ينص على الفيديرالية من اجل توسيع قدراتها وصلاحياتها على حساب الحكومة المركزية، وإن اعلنت في استمرار انها جزء من"العراق الموحد الفيديرالي والديموقراطي". لكن هذه الحكومة في الوقت نفسه لم تأخذ في الاعتبار الجدل والخلافات المتعلقة بهذه المادة الدستورية. فراحت تعقد صفقات مع شركات أجنبية لاستثمار نفط الشمال من دون التوقف عند تحفظات الحكومة المركزية. وعمدت الى توسيع تمثيل ديبلوماسي كردي في بعثات عراقية او على هامشها. وعززت دور الشرطة المحلية وحرس الحدود والبيشمركة باستقلال عن السلطة المركزية. وكان يمكن لوطأة هذه الخطوات التي يشرف عليها رئيس حكومة الإقليم زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود بارزاني أن تكون أكثر ثقلاً في الحياة السياسية العراقية وإثارة للاعتراض، لو لم تكن الرئاسة العراقية من نصيب زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني وقيادة الديبلوماسية العراقية من نصيب القيادي في"الديموقراطي الكردستاني"هوشيار زيباري. في هذا المعنى، لم تأخذ خطوات تثبيت الحكم الذاتي الكردي كل أبعادها ومعانيها العراقية، او على الأقل لم يتمكن الأطراف العراقيون المعترضون على الآحادية الكردية من المجاهرة بمواقفهم، بفعل حاجاتهم الى التحالف مع الأكراد على المستوى المركزي، وتالياً مداراتهم في الخطوات التي يقدمون عليها في الإقليم، والتي تنزع أكثر فأكثر نحو استقلال عن المركز يفرضه الأمر الواقع، إن لم تفرضه النصوص بعد. لكن ما يجري في العراق المحتل والضعيف في سلطته المركزية، وما يجري في إقليم كردستان المتزايد القوة والسلطة، يخضع للمجهر من الجوار الاقليمي حيث تعيش أقليات كردية تسعى الى انتزاع مطالب قومية وثقافية. فوجد الحكم الذاتي الكردستاني في العراق نفسه في مواجهة مباشرة او غير مباشرة مع هذا الجوار غير المعروف بتسامحه وتفهمه للمطالب الكردية. يشتبه هذا الجوار بالتجربة الكردية في العراق ويسعى إلى منع"أكراده"من التأثر بها وجعلها نموذجا يحتذى به كحد أدنى. كما يسعى إلى منع تكرارها عنده وبالقوة إن اقتضت الظروف. ولا يبدو، حتى الآن، ان المسؤولين الأكراد في العراق مهتمون بتبديد هذا الالتباس، إن لم تكن تصريحات بعضهم مُغذية له. وربما يكمن هنا أحد الجوانب الأساسية من الأزمة الحالية مع تركيا. وتكمن أيضا صعوبة إقناع أنقرة بتفادي عمل عسكري مباشر يستهدف ناشطي حزب العمال الكردستاني التركي داخل العراق. ويستهدف ايضاً وضع حد لتوسع الحكم الذاتي الكردستاني في شمال هذا هذا البلد. الحجة السياسية التي يقدمها قادة أكراد العراق، في هذه الأزمة، تقول انهم غير معنيين بمشكلة"العمال الكردستاني"، لكونها مشكلة تركية داخلية. لكن هذه الحجة تضيف أن العمل العسكري ضد أنصار هذا الحزب في العراق لن يحل المشكلة، بدليل ان المواجهة العنيفة بين السلطات التركية وهذا الحزب، والمندلعة منذ أكثر من عقدين، لم تنه المشكلة. أي أن الحل في نظر هؤلاء القادة ينبغي أن يكون سياسياً، وينبغي ان تكون المبادرة فيه لأنقرة. بمعنى ان تقدم السلطات التركية عرضا يقبله"العمال الكردستاني"، لينهي تمرده المسلح. هذه الحجة قد تكون صالحة لو لم يكن العراق تحت الاحتلال وسلطته المركزية ضعيفة إلى حد انها تتوقف على ابواب الحكم الذاتي الكردي. ولو لم يكن هذا الحكم في حال تمدد، سياسي وأمني، في شمال العراق. ولو لم يكن"العمل الكردستاني"يتخذ عمقاً له من الإقليم الذي باتت معروفة الالتباسات والمخاوف التي يثيرها في الجوار. أي أن نفي القادة الأكراد في العراق لأي علاقة في الازمة الحالية، لأسباب تكتيكية، لا يلغي المخاوف من التطورات في الإقليم، وكون هذا الإقليم سيكون مسرحا لأي حرب تركية في العراق. ولا يلغي أن أكراد العراق سيكونون في صلب معمعتها وعليهم ستقع الآثار المدمرة لها. وتالياً، سيكونون معنيين بها، وربما اكثر من أنصار"العمال الكردستاني"المنتشرين في جبال الإقليم والذين ليس لديهم ما يخسرونه، بعدما هجروا قراهم في تركيا. وفي هذا المعنى، من مصلحة الأكراد في العراق ان يطلقوا مبادرة الحل للأزمة الراهنة، بعدما ثبتت القدرة المحدودة للسلطة المركزية في بغداد عن تقديم الضمانات. ومن مصلحتهم أن يعملوا على طمأنة الجوار بأن تجربتهم في الحكم هي إبنة التطورات في العراق الحديث، حرباً وسلماً، وليست قانوناً ينبغي ان يسري على الأكراد في تركيا وسورية وايران.