كانت اللغةُ الآرامية لغة منتشرة قبل الإسلام، وكذلك اللغة الكنعانية البونيقية "الفينيقية" التي نافست اللغتين اليونانية والرومانية، ثم غُلِبت بعدما غُلِبَ حنابعل عسكرياً، فتقدّمت اللغةُ الرومانية، وتنافستْ مع اللغة الفارسية. وبعد الإسلام دبّت الحيوية باللغة العربية، وصارت اللغة الأولى في العالم المتمدن آنذاك من دون منازع، لأنها أصبحت لغة الدين، ولغة العلوم النقلية والعقلية، ولغة الزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد، ولغة الفضاء الفلكي الأولى التي ما زالت مصطلحاتُها ومُسمياتها مُنتشرةً في مُفردات اللغات العالمية بما فيها الإنكليزية التي أخذت المصطلحات اللاتينية المأخوذة من العربية عبْر القناة الأندلسية وغيرها. في عهد الازدهار اللغوي العربي والإسلامي تتلمذ الفرنجة في مدارس الأندلس ومصر والشام والعراق، وفي المشرق اتجه الهنود والأتراك والفُرس غرباً، ثم انتشرت المدارس النظامية في آسيا فتخرّج منها فحول العلماء ورجال الفن والسياسة، ثم صارت إسطنبول محطَّ رِحالِ العلماء بعدما فتحها السلطان العثماني محمد الثاني"الفاتح"الذي اجتمع في بلاطه علماء آسيا وأفريقيا وأوروبا تحت خيمة اللغة العربية التي كان يجيدها السلطان نثراً وشعراً، وكان يأمر بترجمة نفائس الكتب من اللغات الأعجمية إلى اللغة العربية، ولما سُئل: لماذا لا تترجم الكتب إلى التركية أو الفارسية؟ أجاب: إنني أخجل من الله إذا لم تترجم الكتب النافعة إلى العربية لغة القرآن الكريم. وما زالت كتب كثيرة تُرجِمت إلى العربية في عهد الفاتح، لم تأخذْ حُقوقها من التعريف، قابعة تحت طيّات النسيان أو الجهل اللغوي في مكتبات التراث العثماني في تركيا وغيرها من الدول العربية والأعجمية، ويلفها التعتيم خشية تسليط الأضواء على عهد التنوير الحقيقي الذي طوى فترة العصور الوسطى بفتح القسطنطينية بحسب آراء الكثيرين من العلماء الأوروبيين أنفسهم. ولم تتوقف الترجمة إلى العربية عبر قرون الحكم العثماني بل استمرت مع استمرار الخلافة الإسلامية باعتبار لغة القرآن أمّ اللغات، ومن الترجمات المتأخرة في العهد العثماني من الفارسية إلى العربية سنة 1230 ه/ 1815م، شرح مثنوي جلال الدين الرومي باللغة العربية من قِبَل يوسف بن أحمد القونوي المولوي الرومي، المشهور بلقب زُهدي، وهو من فضلاء الترك الذين تأدبوا بأدب العربية. وكان شيخ المولوية في خانقاه بشكطاش في إسطنبول، وقد سمّى شرحه العربي: المنهج القوي لطلاب المثنوي، وهو مطبوع منذ العهد العثماني في ستة مجلدات. نستعرض هنا كتاباً من الكتب التي خدمت اللغة العربية، هو كتاب"مفتاح العلوم"للسكاكي الذي اشترك بشرفِ خدمة اللغة العربية فيه العربُ والعجمُ عندما كانت اللغة العالمية الأولى حتى في العهد الإسلامي العثماني، والاهتمام باللغة جرّ الاهتمامَ بالكتب التي اهتمّت بها. ومن الترجمات القديمة لمؤلف كتاب"مفتاح العلوم"ترجمة مختصرة أوردها مُعاصِرُهُ ياقوت الحموي في كتاب: إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، المعروف باسم: معجم الأدباء، فقال:"يوسف بن أبي بكر بن محمد، أبو يعقوب السكاكي، من أهل خوارزم في أوزبكستان حالياً، علامة"إمام في العربية، والمعاني والبيان"والأدب والعروض والشعر، مُتكلِّمٌ"فقيهٌ"مُتفنِّنٌ في عُلوم شتَّىْ، وهو أَحَدُ أفاضِل العصر الذين سارت بذِكْرهم الرُّكبان، وُلِدَ سنة أربع وخمسين وخمسمئة، وصَنَّفَ مِفتاحَ العلوم في اثني عشر عِلْماً، أحْسَنَ فيه كُلَّ الإحسان، وله غيرُ ذلك، وهو اليوم حَيٌّ ببلدِهِ خوارزم". وكانت وفاة السكاكي الخوارزمي سنة 626 ه/ 1228م، وفي تلك السنة كانت وفاة ياقوت الحموي في العشرين من رمضان، وهذه قرينة على أن وفاة السكاكي حصلتْ بعد وفاة ياقوت في السنة نفسها، ووفاة ياقوت مذكورة في سير أعلام النبلاء للذهبي، المجلد: 22 الصفحة: 313، ومذكورة وفاته في"شذرات الذهب"لابن العماد الحنبلي، المجلد:3 الصفحة: 122. وللسكاكي ترجمات في"مفتاح السعادة"لطاشكبري زادة، وغيره من كتب الأعلام والطبقات، ومنها ترجمته في"بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة"للسيوطي الذي قال:"يوسف السكاكي، أبو يعقوب العلامة، قال ابن فضل الله العمري في"المسالك": ذو علوم سعى إليها، فحصَّل طرائقها، وحفر تحت جناحه طوابقها، واهتزَّ للمعاني اهتزاز الغصن البارِح، ولزَّ من تقدّمه في الزمان لزَّ الجذع القارِح، فأضحى الفضلُ كلّه يزم بعنانه، ويزم السيف ونصله سنانه. انتهى". قال السيوطي:"ونقل عنه أبو حيان الأندلسي في الارتشاف ارتشاف الضرب في مواضع، وقال فيه: ابن السكاكي كان علاّمةً بارعاً في فنون شَتّى خُصوصاً المعاني والبيان، وله كتابُ مفتاح العلوم"فيه اثنا عشر علماً من علوم العربية". وقال السيوطي:"ثم رأيتُ ترجمته بخطِّ الشيخ سِراج الدين البلقيني، فقال: يوسُف بن أبي بكر بن محمد بن علي"أبو يعقوب السكاكي، سراج الدين الخوارزمي. إمام في النحو والتصريف والمعاني والبيان"والاستدلال"والعروض والشعر، وله النصيب الوافرُ في علم الكلام، وسائر الفنون، ومن رأى مُصنَّفَه عَلِمَ تبحًّرَهُ ونُبْلَهُ وفضْلَه. ومات بخوارزم سنة ست وعشرين وستمئة. وذكر غيرُه أنه وُلِدَ سنة خمس وخمسين وخمسمئة". ونظراً لأهمية كتاب"مفتاح العلوم"فقد طُبِعَ منذ عهد الخلافة الإسلامية العثمانية، وقد أورده يوسف إليان سركيس في"معجم المطبوعات العربية والمعربة"الذي صدر عن مطبعة سركيس بمصر سنة 1346 ه/ 1928م، وفيه يعرض ماطبع بالعربية حتى سنة 1339 ه/ 1919م. انظر المجلد الأول، ص: 1033-1034. وقد نقل ترجمته من كتاب"روضات الجنان في أحوال العلماء والسادات"تأليف محمد باقر بن أمير الخوانساري: 4 أجزاء مطبوعات طهران 1304 - 1306 ه. ومن المعروف أن يوسف بن اليان بن موسى سركيس: صاحب"معجم المطبوعات العربية والمعربة"وُلِدَ في دمشق سنة 1272 ه/ 1856م، وانتقل الى بيروت طفلاً، وتنقل ما بين بيروتودمشق وقبرص وروما وأنقرة والآستانة. واستقر بمصر سنة 1912م، فألف وترجم ونشر الكثير من الكتب، وكتب مقالات بالفرنسية عن الآثار في تركيا كافأته عليها الحكومة الروسية القيصرية بتعيينه عضو شرف في معهد الآثار الروسي. وكانت وفاته في القاهرة سنة 1351 ه/ 1932م. وبالعودة إلى كتاب"مفتاح العلوم"يتبيّن أن السكاكي استوعب فيه الشطر الأكبر من علوم العربية، فبدأ الكتاب بعلم الصرف، وتوسّطه بعلم النحو، وأتمّه بعِلمَيّ المعاني والبيان، وألحق بهما العروض. ونظراً لأهميّة الكتاب خصّه العلماء بالدراسة والتدريس، فشرحوه ولخصوه، وكُتبتْ عليه الحواشي، وعُلّقت عليه الهوامش والتعليقات خلال القرون التي تلت زمن تأليفه، وما زال هذا الكتاب محطّ أنظار الباحثين على رغم تراجع الاهتمام باللغة العربية قياساً على ما كانت عليه في العهود الزاهرة الغابرة.