في القدم وصف اليونانيون الموت في ساحة المعركة ب"الموت الجميل". وعليه، ارتقى فشل ارنستو تشي غيفارا السياسي والاستراتيجي في بوليفيا، وهو قتل فيها في تشرين الاول أكتوبر 1967، الى اسطورة. وتمسك غيفارا بقدرٍ اختاره لنفسه، ولقي مصيره. وعند مغادرته كوبا، واستقالته من مناصبه، كان تشي غيفارا يسعى للإسهام في نشر النموذج الفيتنامي المقاتل والمعادي للامبريالية الاميركية في اكثر من بلد. ولا شك في ان النجاح لم يكتب يوماً لمشروع إقامة بؤرة تمرد في بوليفيا. فهذا المشروع انهار بعد أقل من عام على مباشرته، شأن مشروع غيفارا السابق في زائير الأفريقية. ورمى ما سمي ب"التجربة البوليفية"الى تطبيق نظرية ال"فوكو"البؤرة، أي المباشرة في تدريب مقاتلين على القتال، من دون اطلاع هؤلاء المقاتلين على اهداف القتال السياسية. وهذه استراتيجية فاشلة سبق ان اختبرت في بلدان اميركا اللاتينية قبل عقد من الزمن. وفي كتاب"حرب العصابات"، أوجز غيفارا دروس الثورة الكوبية وعبرها في الخلاصتين الآتيتين: - في وسع مقاتلين غير نظاميين إلحاق هزيمة بجيش نظامي. - الجبال هي تربة هذا النوع من القتال المثالية. ومن الممكن مباشرة القتال قبل نضوج شروط بدء النزاع. والحق ان غيفارا لم يحسن تقويم أسباب نجاح المتمردين الكاسترويين نسبة الى مبادئ الرئيس الكوبي فيديل كاسترو في كوبا. فهؤلاء زعموا النضال من أجل"الخبز والحرية". ونجحوا في استمالة الحركات السياسية المدينية، وهي ناوأت نظام باتيستا الاستبدادي، إليهم. ويومها، وقفت الولاياتالمتحدة موقف المتفرج المحايد. وغداة ظهور نازع الثورة الكوبية الى التطرف الايديولوجي، والى انتهاج عقيدة"ماركسية لينينية"في 1960-1961، بدأت موجات نزوح الكوبيين عن بلدهم. وأعلنت الولاياتالمتحدة معاداة النظام الكوبي الجديد، ودعت رؤساء دول اميركا اللاتينية الى مكافحة خلايا حركات التمرد قبل ان يشتد عودها. وفي ستينات القرن المنصرم، لم تستق العبر من فشل نظرية ال"فوكو"في كوبا. وفي بوليفيا، رفض الحزب الشيوعي الالتحاق بمشروع غيفارا. واضطر هذا الاخير الى المحاربة مع مقاتلين اجانب وغرباء عن بوليفيا في ارض غريبة. وعجز مناصرو غيفارا عن مخاطبة الفلاحين الهنود الذين لا يجيدون اللغة الاسبانية. وعلى خلاف حركات التحرر من الاستعمار في آسيا وافريقيا، لم يكن في وسع حركات الكفاح المسلح في دول اميركا اللاتينية الدعوة الى الاستقلال وبعث المشاعر القومية المناوئة للمستعمر. فهذه الدول نالت استقلالها منذ عقود طويلة. ولا شك في ان استراتيجية ال"فوكو"، وهذه تستبعد الإعداد السياسي للمتمردين، أسهمت في عزل الغيفاريين في بوليفيا. وفي دفتر يومياته، دوّن غيفارا العبارة الآتية:"لم ينضم أي فلاح الى حربنا"، بعد تسعة اشهر على بدء الكفاح المسلح. وامام هذا الواقع المرير، لم يملك غيفارا خياراً سوى متابعة الكفاح والمضي قدماً في طريق مسدود. وقُتل غيفارا عوض اعتقاله. فأن يكون غيفارا ميتاً أفضل من بقائه على قيد الحياة. وهذا الموت أضفى هالة البطولة على غيفارا. فهو عاش ومات ولم يخن معتقداته. عن جيرار شاليان، "لوموند" الفرنسية، 10/10/2007