المقارنة بالطبع ظالمة، لكنها تلح على ذهن الزائر العربي لمعرض فرانكفورت. وهل يمكن عقد مقارنة أساساً بين معارض الكتاب في القاهرة أو بيروت أو الدار البيضاء ومعرض فرانكفورت؟ لنأخذ أكبر المعارض العربية مثالاً: وفق الإحصاءات يزور الملايين معرض القاهرة الذي يمتد نحو ثلاثة أسابيع، وتقام خلاله مئات النشاطات الثقافية. هذا المعرض احتفالية ضخمة، تجتذب عائلات بأكلمها تقضي يوماً جميلاً على أرض المعارض في مدينة نصر، بعيداً من تلوث وسط المدينة وزحامها. ولكن ليس الكتاب بالضرورة محور المعرض، أو لنقل في شكل أدق: ليست الإصدارات الجديدة هي الهدف من إقامته. المعرض في القاهرة أو بيروت أو الدار البيضاء هدفه بيع الكتاب، قديمه وحديثه، وأحياناً التخلص مما تفيض به المخازن من"بضاعة"راكدة. القارئ يستفيد من المعرض لحصوله على تخفيض، ولتمكنه أخيراً من العثور على العناوين التي يبحث عنها، سواء من البلدان العربية الأخرى، أو من البلد نفسه. فمشكلة توزيع الكتاب، أو لنقل كارثة التسويق والتوزيع هي أحد العوائق الرئيسة أمام انتشار الكتاب في العالم العربي. هذا هو الفارق الأساس بين المعارض العربية ومعرض فرانكفورت الذي يحتضن كل عام أضخم معارض الكتاب في العالم. يقام معرض فرانكفورت لمدة خمسة أيام فقط، ثلاثة منها للمتخصصين، ويومان للجمهور. ليس هناك بيع، إلا إذا كنا نقصد بيع حقوق النشر والطبع. وهذه السنة استقبل المعرض من العاشر حتى الرابع عشر من تشرين الأول أكتوبر نحو ثلاثمئة ألف زائر، وعرض فيه 7500 ناشر مما يزيد عن مئة دولة زهاء 400 ألف عنوان جديد. وأقيمت على هامش الدورة التاسعة والخمسين نحو 2500 نشاط ثقافي، شارك فيها نحو ألف كاتب من العالم، ليس بينهم سوى كاتب واحد فلسطيني الأصل ألماني اللغة، هو القاص سليم الأفنيش الذي صدرت له حديثاً رواية"نار البراءة"عن دار أونيون السويسرية. والسبب في غياب العرب لا يرجع إلى إدارة المعرض التي وجهت إليها اتهامات عربية كثيرة خلال العام 2004 عندما حلت الثقافة العربية ضيف شرف على فرانكفورت، بل يرجع إلى عجز المؤسسات الثقافية العربية عن إثبات حضورها في الخارج، إذ ان إدارة المعرض لا توجه في المعتاد دعوات إلى الكتّاب، بل يحضر معظمهم بناءً على دعوة من الدار التي تنشر لهم. وإذا كان"العالم العربي"كله قد حضر ضيف شرف عام 2004، فإن المعرض يحتفي هذا العام بمنطقة صغيرة هي إقليم كتالونيا في الشمال الشرقي من إسبانيا عاصمة الإقليم برشلونه. وقد يكون في هذا نوع من الظلم، أن تُستضاف اثنتان وعشرون دولة معاً، بينما يخصص لإقليم صغير معرض بأكلمه. كان حضور العرب عام 2004 يعكس اهتماماً سياسياً في المقام الأول، واكبه صدور ترجمات كثيرة من العربية. وكان المأمول أن يكون ذلك نقطة انطلاق نحو نشر الأدب العربي في الخارج، تعقبها ربما استضافة هذا البلد العربي أو ذاك ليكون"ضيف شرف"المعرض الألماني. هل تجرى محادثات في هذا الشأن؟ هل فهم الناشرون وظيفة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب؟ جولة في أروقة المعرض تبين لنا الهوة الشاسعة التي تفصل بين سوق الكتاب العربي وعالم النشر الدولي. فبينما تعج الأجنحة الألمانية والأوروبية بالناشرين والوكلاء والمترجمين الذين يتفاوضون أو يتفقون على نشر هذه الكتب في بلد آخر، أو ترجمتها إلى لغة أخرى، فإن الأجنحة العربية من مصر والسودان ولبنان وسورية والعراق والأردن والسعودية والبحرين والكويت والإمارات تكاد تخلو من الزوار. عدد كبير من الأجنحة يعرض كتباً قديمة قد يزيد عمر بعضها عن عشر سنوات. وقد يتساءل المرء عن جدوى حضور هؤلاء الناشرين في فرانكفورت ? إلا إذا كان الغرض التعلم من الآخرين. ولكن هل يتجولون ويتعلمون؟ ربما يكون جناح الإمارات الاستثناء الكبير بين الأجنحة العربية، وقد يرجع ذلك إلى التعاون الذي بدأ العام الماضي بين معرض فرانكفورت ومعرض أبو ظبي للكتاب. شهد الجناح حركة كبيرة للتعريف بنشاطات معرض أبو ظبي السنة المقبلة، وكذلك بمشروع"كلمة"الذي يطمح إلى ترجمة مئة عنوان سنوياً من كل فروع المعرفة وعن اللغات الأصلية. إصدارات حديثة شهد معرض هذه السنة كعادته صدور أعمال ألمانية لافتة ومهمة، منها رواية ميشائيل كليبرغ"كارلمان"، ورواية"حملان شريرة"للكاتبة كاتيا لانغه مولر ورواية"القمر والفتاة"لمارتين موزيباخ الذي حصل هذه السنة على جائزة غيورغ بوشنر الأدبية. في فرع المذكرات صدرت يوميات الروائي الكبير مارتين فالزر من 1963 حتى 1973، ومذكرات يوشكا فيشر عن سنوات توليه وزارة الخارجية الألمانية في الحكومة السابقة. الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو حل ضيفاً على المعرض بمناسبة ترجمة كتابه الجديد"تاريخ القبح". وشهد المعرض ترجمات جديدة عن العربية، فأصدرت دار أونيون السويسرية ترجميتن جديدتين لنجيب محفوظ، الأولى جمعت"أحلام فترة النقاهة"والثانية لروايته"عبث الأقدار"التي صدرت بالألمانية بعنوان"خوفو". وإذا كانت"الأحلام"تحوي نصوصاً تقطر شاعرية وحكمة، فإن"عبث الأقدار"، الرواية الأولى التي خطها نجيب محفوظ، رواية متواضعة القيمة، ويمكن القول إن عميد الرواية العربية كان يجرب فيها قلمه. لكن ترجمتها تستهدف بالطبع إثارة فضول القارئ الألماني الشغوف بالحضارة المصرية القديمة. عن الدار نفسها صدرت الترجمة الألمانية لرواية سحر خليفة"صورة وأيقونة وعهد قديم". ودار"أونيون"هي"دار المؤلف"، بمعنى أنها تختار كاتباً وتترجم كل أعماله أو معظمها إلى الألمانية. أما الدار السويسرية الأخرى التي تعنى بالأدب العربي فهي دار"لينوس"، وآخر إصداراتها من العربية رواية"عمارة يعقوبيان"لعلاء الأسواني. وصدرت عن دار"هانز شيلر"البرلينية رواية حسين الموزاني"اعترافات تاجر لحوم". جوائز وشهد المعرض توزيع جائزتين مهمتين. الأولى هي جائزة"الكتاب الألماني"التي تُمنح عشية افتتاح المعرض، وقد ذهبت إلى الروائية الشابة يوليا فرانك عن روايتها"امرأة الظهيرة". وكانت فرانك حققت شهرة نسبية بعد روايتها الأولى"نيران المخيم"التي ترجمت حديثاً إلى العربية وصدرت عن دار"شرقيات"المصرية. وجائزة الكتاب الألماني جائزة حديثة، يمنحها اتحاد الناشرين الألمان منذ ثلاثة أعوام لأفضل رواية. وقد أسست الجائزة الألمانية على غرار جائزة"بوكر"، حيث تقوم دور النشر في المنطقة الألمانية ألمانيا والنمسا وسويسرا بترشيح أفضل الأعمال الروائية التي نشرتها خلال العام. الفارق الجوهري مع"بوكر"أن الجائزة الألمانية لا تذهب إلى الرواية الأفضل من الناحية الفنية أو التقنية، بل إلى الرواية التي تتوقع لها لجنة التحكيم الرواج الجماهيري، أي أن الجائزة في الأساس وسيلة لتسليط الضوء على الأعمال المتوقع لها النجاح الجماهيري. أما الجائزة الأخرى، جائزة السلام، فهي توزع دوماً آخر أيام المعرض يوم الأحد في كنسية القديس بولس في فرانكفورت. الجائزة كرمت هذا العام المؤرخ الإسرائيلي شاول فريدلندر لأبحاثه عن المحرقة اليهودية. ويعتبر كتاب فريدلندر"الرايخ الثالث واليهود"مرجعاً أساسياً في أبحاث الهولوكست. تبلغ قيمة الجائزة 25 ألف يورو، ومن الحاصلين عليها في الأعوام السابقة أورهان باموك ويورغن هابرماس وآسيا جبار. يخرج الزائر من معرض فرانكفورت للكتاب بانطباع متشائم في ما يخص الكتاب العربي. فالحركة الأدبية النشيطة تتطلب منظومة متكاملة: نظام تسويقي فعال للكتاب يجتاز الحدود والعوائق، نقاد يقومون بفرز الغث من السمين، جوائز تسلط الضوء على أبرز الإصدارات، حركة ترجمة نشيطة تتابع أحدث ما صدر، تقاليد راسخة في دور النشر تعمل على إخراج الكتاب، سواء كان مترجماً أو مؤلفاً، في أفضل صورة بعد مراجعته وتنقيحه. ليس الأمر مجرد إقامة معرض للكتاب، حتى إذا كان هو الأضخم والأهم من نوعه. فأين الكتاب العربي من كل هذا؟ وأين القارئ؟