الدراسات الحديثة في تاريخ التشريع الإسلامي كثيرة، وأغلبها يتعلق بمسائل مجزأة، وقد تتجاسر أحياناً على استنتاجات عامة تتجاوز حدود الموضوع المدروس. والقليل النادر هو الذي يدرس مقاطع واسعة من التشريع الإسلامي ليصل إلى بناء رؤية عامة لا تكون مجرد تعميم لدراسة تفصيلية، فميدان هذا البحث وعر قد لا يشجع صاحبه على أن يمضي دهراً في التمحيص والتنقيب. دراسات وائل حلاق، الأستاذ الفلسطيني الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة واشنطن والذي يدرّس حالياً في جامعة مكجيل في كندا، هي بلا شك دراسات من صنف القليل النادر. وقد كتبت بالإنكليزية وظلت محدودة التداول في الأوساط العربية، فكان من الواجب التنويه بتعريب ثلاث منها دفعة واحدة، ليصبح متاحاً للقراء العرب التعرف إلى الرؤية العامة التي يعرضها هذا الباحث القدير بعد عقود من البحث الجاد في مصادر التشريع الإسلامي. وقد صدرت ثلاثتها هذه السنة 2007 عن"دار المدار الإسلامي"في بيروت في شكل ثلاثية يمكن أن تقرأ منفصلة أو متتابعة. أولاها تتخذ عنواناً هو"تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام: مقدمة في أصول الفقه السني"وتبحث في النظرية العامة للتشريع الإسلامي كما تبلورت في علم أصول الفقه. الثانية تحمل عنوان"نشأة الفقه الإسلامي وتطوره"وتبحث في فترة التكوين والنمو المعادلة للقرون الهجرية الثلاثة الأولى. الثالثة عنوانها"السلطة المذهبية: التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي"وموضوعها القرون الهجرية الخمسة الموالية منشورة تباعاً بالإنكليزية سنوات 1997 و2001 و2005. الأفكار كثيرة ومثيرة في هذه الثلاثية لا يمكن استعراضها بالتفصيل، لكن أكثرها إثارة قد تكون فكرتان ملخصهما ما يأتي: أولاً، إنّ استقرار الفقه الإسلامي لم يحصل في القرن الثاني/ الثامن والشافعي لم يكن مؤسس أصول الفقه أو نظرية التشريع الإسلامي، بل قد حصل هذا الاستقرار في القرن الثالث وأعيد استكشاف"الرسالة"للشافعي تبعاً لذلك. ثانياً، إنّ الاجتهاد لم ينقطع بعد تأسيس المذاهب ولا بعد القرن الرابع من الهجرة، بل على العكس تماماً ظل النظام التشريعي الإسلامي يتجدّد باستمرار لأنه تضمن عناصر التجديد في بنيته التأسيسية. لنحاول متابعة الباحث في هاتين النظريتين اللتين ستقلبان التصورات السائدة. إنّه يرفض الانطلاق من مسألة السنّة النبوية التي اتخذها باحثون كبار مثل يوسف شاخت الخيط الهادي لمتابعة تطور التشريع الإسلامي، ويرى أن الأرضية الأكثر صلابة هي دراسة نشأة التشريع من خلال الآيات القرآنية التي تتضمن تشريعات، وهي نحو 500 آية. لكن البعض ينفي حديثاً الصبغة التشريعية للقرآن وحجته أنّ عدد الآيات التشريعية قليل بالنسبة الى مجموع الآيات القرآنية، ورأى حلاق العكس تماماً، فهو يساند غويتاين الذي ذهب إلى حدّ القول بأنّ هذا العدد يوازي الفحوى التشريعية للتوراة. وحجة حلاق أن الآيات التشريعية لا تتكرّر، عكس الآيات الأخرى، وأنها أكثر طولاً من الآيات الأخرى بنسبة الضعف أو الضعفين. وقد ابتكر الفقهاء في القرن الأول فكرة النسخ ليوحدوا الأحكام ويجدوا مخرجاً من تعارضها، وهذا في ذاته دليل على أنّ القرآن قد اعتبر منذ تلك الفترة مصدراً للتشريع. وكنت أتمنّى لو توسّع الباحث أكثر في مسألة النسخ، فما الذي يثبت أنها تتصل بالتشريع؟ وقد وردت كلمة نسخ في القرآن وربما كانت تعني شيئاً آخر، فكيف تم الانتقال بها إلى التشريع؟ أما السنّة فلم تكن قد ظهرت في البداية في الشكل الذي نعرف الآن. وإنما كان معنى السنّة الشخصية النموذجية والطريقة التي سنتها شخصية مرموقة واتخذت قدوة بعدها. وبهذا المعنى تكون فكرة السنّة معروفة منذ الفترة السابقة للإسلام، إذ كان يحتفظ بسير البعض نموذجاً وقدوة. فمن الطبيعي أن يحتفظ المسلمون بسيرة نبيّهم قدوة لهم بعد وفاته ثم يحتفظوا بسير الخلفاء وكبار الصحابة، وتضاف هذه كلها إلى ما كان يحتفظ به العرب من سنن سابقة لم يعارضها الإسلام. وعندما تنافس عثمان وعلي على الخلافة عُرض عليهما أن يتعهدا التزام"السنّة النبوية وسيرة الشيخين"، وهو دليل في رأي حلاق، وعكس رأي شاخت، أن مفهوم السنّة قديم لدى المسلمين، ولكن ليس بالمعنى الذي تعرضه الدراسات التقليدية، فهي تخلط بين مفهوم ظهر في فترة النشأة ومفهوم عرف بعد استقرار الفقه وأصوله. ومعلوم أن شاخت كان حاول إثبات تأخر ظهور مفهوم السنّة واستنتج منه تأخر نشأة التشريع الإسلامي، وهو ما سعى حلاق إلى دحضه بصفة قاطعة. واعتبر شاخت أن السنّة كانت تعني ما استقر عليه التقليد في الجهات، وهذا مفهوم يرفضه حلاق ويقدم بديلاً منه فكرة السنّة بمعنى القدوة كما ذكرنا. وكان خليل عبدالكريم وثق مجموعة من الأعراف والممارسات التي اعتمدها الدين الجديد راجع: الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، سينا للنشر، 1990. فهذه الممارسات لم تنشأ في الأقاليم التي دخلها الإسلام، بل هي سابقة لظهور الإسلام لكنه لم يبطلها. من هنا يكون مفهوم السنّة نشأ بصفة طبيعية وبحسب تصوّر معهود لدى العرب منذ القدم. ولا يخالف ذلك كون جزء من السنّة يتمثل في ممارسات إدارية كانت سائدة في البلدان المفتوحة، فهذا المعنى الذي عممه شاخت هو جزء من السنّة وليس السنّة كلها، والأهم أنه يدخل في عملية ذهنية واعية ومعروفة وسائدة منذ القدم وليست تلقياً سلبياً لتراث أجنبي خضع للأسلمة لاحقاً بأن نسب إلى مصادر تشريعية مقبولة. ولا يخالف ذلك أن السنّة بمعنى رواية الأحاديث النبوية كانت حاضرة أيضاً، لأن اتخاذ النبي نموذجاً يتضمن أيضاً الاقتداء بأقواله، لكن السنّة في مرحلة النشأة لم تكن تقتصر على الرواية أو ما عرف لاحقاً بالحديث. لقد مثل القرآن حينئذ، وكذلك السنّة بالمعنى الذي ذكرنا، مصدرين للتشريع منذ البداية. إلا أن توزع المسلمين بين الأقاليم أحدث مسارات مختلفة في هذا التشريع، وتأسست بعد ذلك المذاهب بصفة استرجاعية، إذ نسب علماء كلّ إقليم تشريعاتهم إلى المصادر التشريعية المتقدمة، ويرى حلاق أن البداية كانت من العراق، إذ نسب أهلها تشريعاتهم إلى إبراهيم النخعي، ولم يستعمل أبو حنيفة ت 150/ 767 والأوزاعي ت 157/ 774 إلا القليل من الأحاديث النبوية، لأننا بقدر ما نرجع إلى الوراء تاريخياً نجد مفهوماً للسنّة هو غير المفهوم المعروف في كتب المتأخرين. وفي عهد محمد بن الحسن الشيباني 189/ 804 والشافعي 204/ 820 بدأ مفهوم السنّة يقتصر على النبي دون غيره من الشخصيات النموذجية ولو كانت من الصحابة. ففي نهاية القرن الثاني للهجرة ظهرت حركة قوية هدفها ترسيخ الفقه وبناء نظرية فقهية متماسكة. وكان هذا الانتقال في مفهوم السنّة أحد وجوهها. أما الوجه الآخر فيتعلق بمفهوم الرأي أو الاجتهاد الذي كان يحمل دلالتين، إما التفكير الحر أو التفكير المستند إلى حالة سابقة، الأول دعي لاحقاً الاستحسان وأقصي عن مصادر التشريع، والثاني دعي لاحقاً القياس وأقحم ضمن هذه المصادر. بقي من مصادر التشريع المعروفة الإجماع، وقد مرّ بدوره في مراحل عدّة قبل أن يستقرّ على شكله المعروف في عهد الاستقرار. وهو أيضاً يرجع بأصوله إلى الفترة السابقة للإسلام وكان يعني اتفاق أهل الرأي في قبيلة معينة ثم أصبح يعني بعد ذلك اتفاق الناس على القيمة النموذجية لممارسات معينة، فهو كان شديد الالتصاق بمفهوم السنّة وربما كان جزءاً من هذا المفهوم وأصوله عربية وليست مقتبسة من تشريعات أجنبية. وقد اضطلع بدور بارز في تشكيل المذاهب التي كانت تعبر عن إجماع أقاليم معينة على ما استقر في كل منها نموذجاً وقدوة للاحقين. وهكذا حاول حلاق أن يثبت أن كل مصادر التشريع الإسلامي هي من أصول عربية وإن كانت سابقة للإسلام باستثناء القرآن ولم تقتبس من نظم تشريعية أجنبية. يعارض حلاّق الفكرة الشائعة التي تنسب الى الشافعي تأسيس أصول الفقه ويرى أن الشافعي لم يكن إلا واحداً من كثيرين حاولوا مع نهاية القرن الثاني من الهجرة أن يدخلوا بعض النظام في الفكر التشريعي الإسلامي، وقد بحث حلاّق في نصوص الفقهاء بعد قرن من وفاة الشافعي فلم يكد يجد أحداً استشهد برسالة الشافعي في أصول الفقه، ما جعله يستنتج أننا مرة أخرى أمام عملية بناء استرجاعي، فقد استعملت رسالة الشافعي لاحقاً لتبرير الاختيارات النظرية للفقهاء، لكنها لم تكن هي الموجهة لهذه الاختيارات. ويترتب على هذا الأمر أن استقرار النظرية التشريعية أصول الفقه لم يحصل في قرن الشافعي، أي القرن الثاني، وإنما في القرن الموالي وفيه استكشفت رسالة الشافعي واعترف بقيمتها. والسبب في ذلك أن الشافعي حاول أن يعرض نظرية وسطاً بين أهل الرأي وأهل الحديث فلم ترضِ هذا الفريق أو ذاك، فكان الشافعي سابقاً لعصره. فبعد الشافعي مباشرة نجد السيادة من نصيب ابن حنبل 241/ 855 وداوود الظاهري 270/ 883 وهما من أكثر المعارضين لإعمال العقل في القضايا التشريعية والدينية. وكانت المعارضة الشديدة للرأي وإعمال العقل نتيجة"المحنة"ونهايتها بانتصار المحدثين. وتطلب الأمر قرناً كاملاً كي تتقارب مدرستا الرأي والحديث ويهتم الفقهاء بمحاولة الشافعي التوفيقية. ومن الناحية المقابلة نجد الاتجاه العقلاني الذي يمثله فقهاء الرأي أو المتكلمون قد اقترب بدوره من القضايا الفقهية، وحتى المعتزلة أصبحوا مهتمين بقضايا أصول الفقه كما تدل على ذلك الكتابات المتأخرة للقاضي عبدالجبار 415/ 1024 وأبي الحسين البصري 436/ 1044. نشأة الفقه الإسلامي قامت على كاهل ثلاثة"لاعبين أساسيين"، كما يقول: القاضي والفقيه والمفتي. في البدء كان القاضي، وكانت مهمته تتمثل في التحكيم بين المتنازعين ولم يكن بالضرورة شخصاً شديد التدين، فقد أطنبت كتب الأخبار في وصف القاضي شريح وهو يكثر من شرب النبيذ ولم ير أحد ذلك قادحاً في مكانته. أما الفقيه فهو شخص دفعته دوافع دينية إلى تعلم القضايا التشريعية وتعليمها، وعندما نشأ جيل لم يعرف غير الإسلام وقيمه بدأت تظهر هذه الشريحة الجديدة التي سميت بالفقهاء والتي ستصبح الموجهة للقضاء، إذ أصبح على القاضي أن يحكم بمقتضى تعليماتها، ثم ستستحوذ بنفسها على القضاء من دون أن تسمح بتداخل دور القاضي ودور الفقيه، فالدور الثاني هو الأهم وقد ظل مستقلاً عن ضغط السياسة، بل كان الكثير من الفقهاء يفضلون الابتعاد من القضاء. ولئن نشأت المذاهب حول أسماء معينة، فإن الحقيقة أنها كانت تراثاً لمجموعات من الفقهاء في أقاليم مختلفة اضطلعت بهذا التفكير التشريعي وتداولته، فكل مذهب هو في الحقيقة مدين لمجموعة من الأشخاص وليس لشخص واحد. ومؤسس المذهب ليس مجتهداً مطلقاً بل هو يأخذ بدوره عن سابقين، وقد قدم حلاق مثالاً على ذلك من خلال المقارنة بين الكتابين المنسوبين الى الإمام مالك وهما"الموطأ"وپ"المدونة"ويتضح بجلاء أن الكثير من الآراء التي تنسب الى مالك في المدونة ترد في"الموطأ"منسوبة الى علماء سابقين أخذ مالك عنهم الفقه. وكما لم يكن مؤسسو المذاهب مجتهدين مطلقين فلم يكن تلامذتهم مجرد أتباع مقلدين لآرائهم بل كان دورهم في نشأة المذاهب لا يقل قيمة عن دور الأئمة الذين نسبت إليهم هده المذاهب. وقد ابتدع الفقه الإسلامي منذ البداية طريقة غير مسبوقة في كل التشريعات القديمة تجعل التقليد جزءاً من تطور المذهب بما أنّ المذهب يقترح أقوالاً عدة في كل مسألة وأنّ المقلد ليس الذي يتبع من دون روية، بل هو الذي يقوم بالترجيح بين هذه الأقوال، وبذلك يتوافر الكثير من المرونة أمام المفتي والقاضي، إذ يمكن أن يرجحا ما يريان أنه الأكثر مناسبة للحالة موضوع الفصل، ويمكن أن يؤثرا في الفقيه حتى يطور الأحكام بمقتضى المستجدات. فالمفتي والقاضي كانا حلقة الوصل بين الفقيه والواقع المتغير. إن تأسيس السلطة المرجعية للمذهب عملية يتضح أنها أكثر تعقيداً مما يبدو في الظاهر، وكذلك عمل الفقهاء بعد مرحلة التأسيس والذي يمثل بدوره محافظة على السلطة المرجعية وليس على الآراء الشخصية لمؤسس المذهب. وكما بدأ الفقه الإسلامي بسنن الأقاليم فقد انتهى بإقحام العرف مصدراً من مصادره، وذلك دليل بحسب الكاتب أنه لم يكن مجرد تطبيق جامد للنصوص الدينية على الوقائع.