أطلعت على كتاب "صدام الحضارات" لصاموئيل هنتنغتون حال صدوره في مطلع تسعينات القرن الماضي بصورة بحث قبل أن يصدر بعد سنوات ككتاب، وبالنسبة لي فهنتنغتون كان مصيباً في إعادة وصف حال الجماعات الكبرى في العالم بعد مرحلة الحرب الباردة، وبخاصة في تأكيده على أهمية العمق الثقافي والحضاري للصراع في العالم، فقد أعاد رسم الهويات النافذة في العالم. يريد هنتنغتون أن يقرر بأن العالم انخرط في حقبة تشكيل الهويات الثقافية، وكثير من تلك الهويات اعتمدت الأوهام والمخاوف لأنها لا تستطيع مواكبة التطور الذي انجزته الحضارة الغربية، على أنه مهما أدعى هنتنغتون الموضوعية في الوصف والتحليل، فقد كانت أحكامه مشبعة بالإرث الاستعماري الاستعلائي، شأنه في ذلك شأن"فوكوياما"في كتابه حول"نهاية التاريخ"الذي كان صدر قبل كتاب"صدام الحضارات". فكلاهما يعيد ترتيب العلاقات على أسس هرمية قائمة على استشعار الخطر من الآخر المختلف ثقافياً ودينياً. وكلما تأملت في أطروحة هنتنغتون أجدها عرجاء وتفتقر الى السلامة، فالحضارات بذاتها لا تتصارع"لأنها المكسب النهائي للعقل البشري، إنما أذهب إلى ما يذهب إليه طارق علي من أن الحضارات، وهي تتفاعل في ما بينها، تنتج أصوليات راديكالية ناقمة وعنيفة، وأن هذه الأصوليات المغلقة على نفسها هي التي تتصادم وليس الحضارات الكبرى، فما نجده الآن ليس صراعاً بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، إنما هو نزاع عنيف بين أصولية إسلامية لها تفسيرها الضيق للدين وبين مزيج من أصولية إمبريالية-أميركية ذات بطانة مسيحية تقول بالتفسير نفسه، وإذا كانت الجماعات الجهادية والسلفية تمثل الطرف الأول فالمركزية الغربية، ومنها العولمة الاقتصادية والثقافية القائمة على الاحتكار والاستغلال والهيمنة، بما في ذلك الأصولية المسيحية التي نشطت في الفكر الديني خلال العقود الأخيرة تمثل الطرف الثاني، إذ يحاول كل طرف خلق مجال ثقافي وديني للتحيزات الخاصة به، فيمارس العنف باسم الحضارات التي ينتمي إليها، لكن تلك الحاضنات الكبرى لا علاقة لها بصراعاتهم. وعليه تبطل بعض جوانب فرضية هنتنغتون القائلة بصراع الحضارات، فالأصح هو أن جماعات راديكالية أصولية تؤجج العنف داخل هذه الحضارة أو تلك ضد مجموعة مضادة. فنحن بإزاء صدام للأصوليات وليس للحضارات. وبعبارة أخرى هنالك نزاع بين قوى تريد فرض هوية كونية وقوى إقليمية تدعي الحفاظ على الهويات الخاصة. ولو تتبعنا هذا التحليل إلى نهايته لاتضح المقصد بصورة أوضح. فعلى المستوى الإسلامي نفسه لا أجد شخصياً صراعاً بين المذاهب والطوائف التي تقر جميعها بالانتماء إلى الدين الإسلامي، إنما الصراع بين جماعات متطرفة داخل هذا المذهب أو ذاك، وهذه الجماعات سواء كانت دينية أو قبلية أو عرقية تحاول تأميم رأس المال الرمزي للدين أو العرق أو الثقافة لمصلحتها، لتبدو وكأنها تنطق باسم الجماعة، وتعبر عن تطلعاتها الكبرى، والتحليل النقدي يكشف زيف هذا الادعاء. فالروابط بين الحضارات الكبرى والأديان تزداد قوة يوماً بعد يوم بفعل الاتصالات والمصالح والهجرات، لكن الأصوليات المتعصبة تلجأ إلى تفسيرات ثقافية متحيزة لها صلة بنظام القيم فتتصادم في ما بينها، وتحاول انتزاع شرعيتها بادعاء تمثيل الحضارات الكبرى، أو الأديان السماوية. واقترح بأن نعيد النظر بكل ذلك، لامتصاص شحن الغلواء التي تدفع هذه الجماعات إلى ممارسة العنف في ما بينها، بما يلحق ضرراً بالحضارات نفسها، وقد حللت هذه الظاهرة في كتابين من كتبي هما"المركزية الغربية"وپ"المركزية الإسلامية". ووجدت أن الخلاف هو خلاف بين المركزيات القائمة على أساس تفسيرات مغلقة أو شبه مغلقة للعقائد والثقافات، ولا بد من زحزحة الحدود الوهمية الفاصلة بينها، وتفكيك الركائز والفرضيات الوهمية القائمة عليها. ولا بد من إعادة النظر بكل ذلك بواسطة فكر نقدي عقلاني، فأنا أذهب مذهب المفكر الألماني"هابرماز"إلى ضرورة ظهور نوع من"الدين العاقل"الذي يجعل من العقلانية النقدية الوسيلة الأساسية لاقتراح الأفكار والأنظمة، لكي تنطفئ جذوة"الدين المتعصب"التي تؤججها تفسيرات مغلقة للظاهرة الدينية. لا بد من التأكيد على أن ما يمور به العالم من تنازعات كبرى مرجعه - في الغالب - الانحباس في تصورات مغلقة تغذيها رؤى تستند إلى تصوراتٍ متعصبة، ومع أن المجتمعات في العصر الحديث طوّرت ما يكفي من أسباب التنازع كالأيديولوجيات المطلقة، والاستبدادِ، والاستغلال، والمصالح، لكن التنازعاتِ الكبرى هي نتاجٌ لمركزيات ثقافية وجدتْ لها دعماً من أطراف التنازع، وبسبب غياب النقد الذي يجرّدُ تلك المركزياتِ من غلوائها، في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلّبتْ تصوراتُها، واصطنعت لها دعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدّت إلى زرع فكرةِ السموِّ والرفعةِ في الذات والدونيةِ والانتقاصِ في الآخر، ومع أن كثيراً من أطراف العالم تداخلتْ في مصالحِها، وثقافاتها، وأفكارِها، لكن ضَعفَ الفكرِ النقدي حال دون أن تتلاشى المركزياتُ الكبرى. ثمة عوائق ثقافية استجدت، فلم يعد تبادل الأفكار، والقيم، ميسوراً بالدرجة التي نتصورها، إذ نشأت حدود رمزية فاصلة بين المجتمعات بفعل النزاعات السياسية والدينية والثقافية، وبذرائع المحافظة على الأصالة والهوية ظهرت ردود أفعال مناهضة للتغيرات الاجتماعية والقيمية، ففي ظل توترات تجتاح العالم، وقوى إمبراطورية تريد إعادة تشكيله طبقاً لرؤاها ومصالحها، لجأت كثير من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة عارمة للحماية الذاتية. ومن الطبيعي أن الرغبة في صيانة الذات ستؤدي إلى درجة من الانقطاع عن جملة التحولات الجارية في العالم، فيحل الرفض محل القبول، ويسود الخوف بدل الأمان، والريبة مكان الطمأنينة، وتندلع نزاعات ثقافية بموازاة الصراعات العسكرية والاقتصادية والسياسية.