سئلت ماذا يضايقك في الناس؟ وكان الرد: الناس. فهم كما قال امرؤ القيس: عصافير وذبان ودود / وأجرأ من مجلّحة الذئاب. وبما انني من الناس فأنا أعرف ان هناك من يضيق بي، وأرجح انه على حق. كان السؤال على خلفية قضية شغل بها الانكليز وصحفهم أسابيع، فالطالبة الحسناء كاثلين جننغز وضعت قدميها على المقعد المقابل في القطار، وانتهت أمام قاضٍ رفض القضية ضدها لأنها غير مهمة، فنجت من غرامة مالية أو السجن، أو العقوبتين معاً، وسجل عدلي. البنت ارتكبت جنحة لا جناية، وكلنا يضيق براكب يضع قدميه على المقعد، خصوصاً اذا لم يكن شابة حسناء. وقد رأيت من وضع قدميه وفي المقعد المجاور لهما راكب آخر. طبعاً اذا كان الراكب المخالف على شكل مايك تايسون، فلن يعارضه أحد. أجد القدمين على المقعد من أهون الأمور، فهناك أسباب كثيرة للضيق بالناس، كلها أهم، مثل الذي يكاد يريح رأسه على كتفك ليقرأ الجريدة معك، والذي يتحدث بصوت عالٍ يسمع في العربة التالية، او الذي يسمع الموسيقى من راديو ترانزستور، ولا يعرف بعد ان هناك آي ? بود، ويستطيع ان يَطرب من دون ان تضطرب بقية الركاب. وبما انني أقيم في لندن فأزعج من كل ما سبق الذي يدخل القطار وهو يريد ان ينتحر بتفجير نفسه معنا. ماذا يزعج القارئ في الناس الآخرين؟ بانتظار جوابه اعترف بأن رائحة الجسد تزعجني، وهي كريهة أحياناً الى درجة ان تصيب ضحيتها بدوار، الاغتسال هو الحل، مع انني سمعت عن ناس يعانون من مشكلة طبية. غير ان هناك آخرين بعضهم في بلدان حارة لم يستحموا منذ فُطموا، ويدخل أحدهم المصعد معك، وتترقرق الدموع في عينيك، وتكتم نفسك ما استطعت، وأنت تود لو تكتم نفسه. العطور ليست بديلاً من الاستحمام، فهي لا تغطي الرائحة الكريهة، وإنما تسير معها. والملك لويس الرابع عشر، الملك الشمس، لم يكن يستحم وإنما يستعمل العطور والدهون بحضور الأشراف. وليس في قصر فرساي بشكله الاصلي حمّام واحد، فربما كان هذا ما أدى الى الثورة الفرنسية في النهاية. يزعجني أيضاً فالنتينو، وهو يزعجني لأنه ليس فالنتينو أبداً، وإنما يتصرّف كأنه وريثه الشرعي الى قلوب النساء، أو كأنه كمال الشناوي في شبابه، او عمر الشريف عندما فتن فاتن حمامة. كنتُ مرة في عشاء هذا الصيف في فندق، ومعنا رجل ذهب الى المرحاض التواليت مرة بعد مرة، واعتقدت ان عنده مشكلة صحية. وذهبت الى التواليت، واذا به يتبعني، الا انه لم يقضِ أي حاجة، وإنما أخرج من جيبه مشطاً وسوّى شعره، وشد ربطة عنقه، وتأمل شكله في المرآة وجهاً وجنباً، ثم عاد الى طاولة العشاء لتتمتع النساء بطلعته البهية. مثل هذا النوع موجود، وأسوأ نماذجه رجل كان شاباً ووسيماً يوماً، ثم تقدم سناً، وتساقط شعراً، وتغضنّ وسمُن، وقلع غراب البين أسنانه، ومع ذلك يظل يتصرف كأنه ابن عشرين، مع ان حظه مع النساء مثل حظ فالنتينو بعد موته. هذا الرجل فيه شيء... شيء يجعل المرأة تفكر بالرجال الآخرين. الرجل يكبر ولا يرشد، والغبي الذي يعرف انه غبي لا يزعج طالما انه يتحرك ضمن حدود غبائه. ولكن هناك الدعيّ او المدّعي الذي يثبت ان الضوء أسرع من الصوت لأنك تراه وتشكك في أنه غبي، ثم يصل كلامه الى سمعك ويتحول الشك عندك الى يقين. نموذج آخر على الازعاج هو الرجل الذي يعرف نكتة واحدة، ويهتم بقضية واحدة. وكنتُ أسمي واحداً من هؤلاء التاريخ لأنه يعيد نفسه. بعد هذا وذاك يزعجني طالب الخدمات الشخصية، ومن هؤلاء من يحترف السؤال. وتقدم له خدمة ويقول انه لن ينساك، وهو لا ينساك فعلاً اذا احتاج الى خدمة اخرى. ويصبح ازعاج هذا النموذج مضاعفاًَ اذا خدمته ولم يشكرك، ومع ذلك يعود اليك مرة بعد مرة كأنك وليّ أمره. هناك نموذج متطور مما سبق، فهو عندما لا يطلب منك خدمة يتطوع بعرض مشاكله عليك كأنه يريد منك مشاركته في المسؤولية عنها، في حين أنك لا تريد ان تتدخل في خصوصيات حياته الزوجية، ولا يهمك ان تعرف تفاصيل عمله وصحته. وسألني واحد من هؤلاء: ماذا أفعل؟ أسناني صفراء. واقترحت ان يلبس كرافات بنية اللون. هل أعترف بشيء؟ القارئ مثل زبون السوبرماركت دائماً على حق، ومع ذلك يزعجني قارئ يقرأ الجريدة على الانترنت، أي مجاناً، ثم يرسل اليّ رسالة الكترونية تحتج وتعترض وتنتقد. ماذا كان سيفعل لو دفع ثمن العدد؟ القارئ"يمون"لأنه نادر، وتجب المحافظة عليه، غير ان هناك المزعج من دون أي صفات تخفيفية، مثل قليل الذوق، وهناك مثال شعبي لبناني عنه سأترجمه الى الفصحى هو"رأى رجلاً وقد شقّ بطنه وأمعاؤه في الخارج فسأله إن كان يستطيع ان يأخذها لتأكلها القطة". كنا نعود صديقاً في المستشفى بعد عملية في القلب، وجاء رجل اختار ان يقول ان مرض القلب ينتهي دائماً بالموت. وحاول بعضنا ان ينكر ذلك، الا ان الزائر ركب رأسه وهو يقول امام المريض:"أبداً. أبداً مريض القلب يموت في النهاية". وكاد المريض ان يصاب بجلطة في الدماغ هذه المرة وهو يستمع. وعندما خرجنا قلت للرجل محاولاً تخفيف الموضوع ان المريض المصاب بمرض عضال اذا مات يرتاح. ورد: من قال هذا؟ ربما مات وراح الى جهنم. بانتظار ما يزعج القارئ، أختتم بالنصّاب الدجال الذي يريد منك ان تصبح شاهداً على استقامته عند الآخرين. وألطف ما رأيت، أو سمعت، كان بين زملاء، فواحد اتهم آخر بأنه كذا وكيت، كما هو فعلاً. والتفت المتهم الى زميل ثالث وقال: بشرفك أنا هيك؟ وقال الثالث: لو لم تحلفني بشرفي لكنتُ شهدتُ لك.