جاءت الى عيادتي النفسية قبل ايام طالبة في الجامعة الأميركية في القاهرة من طبقة عليا، في العشرين من عمرها، ترتدي الحجاب الأنيق، وجهها شاحب، غسلته من المساحيق، تعاني الاكتئاب والرغبة في الانتحار. لقد حملت من ابن عمها في بيتها اثناء غياب أفراد أسرتها في النادي. قالت لي:"توقعت أن أنزف في عملية الإجهاض فتعاني أسرتي الفضيحة بعد موتي. لم يكن أمامي حل انا وابن عمي إلا التخفي ايام الولادة، ثم لف الطفلة المولودة في بطانية صوف وتركها في ظلمة الليل في حي السيدة زينب في جوار الجامع. تبكي الفتاة الطالبة وعيناها شاردتان في الخواء، وتقول: شفت عينيها وأنا ألفها بالبطانية، بنتي المولودة، وأنا أتركها على أرض الشارع، في الهوا والبرد، شفت عينيها مليانة دموع وساكتة خالص، ما اقدرتش أمشي. عينيها في عيني. وصوابعها الخمسة مساكة في صباعي الصغير ده! لولا ابن عمي شدني وأخذني بعيد، كنت بقيت لحد ما يمسكوني، ويا ريت بقيت جنبها، على الأقل كنت أعيش معاها في الشوارع وأحميها من عصابات الأطفال. يا ترى انت فين يا بنتي؟!". السؤال: اين ذهبت هذه الطفلة؟! اكتشفنا من خلال الصحف ان عصابات الأطفال هي مؤسسات كاملة محلية ودولية لجمع اللقطاء وأطفال السفاح، وأطفال الشوارع الشرعيين الهاربين من الفقر أو من قسوة الأب أو زوجة الأب، أو من قسوة العم الذي يتولى الولاية بعد موت الأب، أو من قسوة الأم ذاتها التي تدفعها الظروف القاسية للتخلي عن فلذة كبدها. تعمل في مؤسسات عصابات الأطفال نساء مدربات على توليد الأم بطريقة سليمة، حتى لا تتعرض للخطر، وعلى انتزاع المولود من أمه بعد لحظة خروجه من الرحم، وقبل ان تلتقي عينا الأم بعيني طفلها. لماذا؟ لأن الأم، وإن كانت فتاة صغيرة في الرابعة عشرة من عمرها، لا يمكن ان تنسى عيني طفلها، وقد تدافع عنه بقوة خارقة قد تسبب المشاكل لهذه العصابات، لهذا ينزعون المولود بسرعة فائقة، ويحملون الأم وهي لا تزال تنزف الى حفرة في الأرض ثم يوارون عليها التراب ويرشونه بالماء، ويزرعون عليها الجرجير والبصل والخس والخيار، لمجرد التعمية. لا توجد إحصاءات بهذه الأمهات الصغيرات الموؤودات في مصر، ولا توجد إحصاءات بعدد عصابات الأطفال، وكل يوم نكتشف وكراً جديداً لعصابة كاملة. قرأنا في صحف 28 كانون الأول ديسمبر 2006 ان أجهزة الأمن اقتحمت المسرح المهجور في حي الابراهيمية في الاسكندرية، وقد حولته إحدى عصابات الأطفال الى قلعة مسلحة، كما توجهت قوة الى وكر"أم رشا"التي تتاجر في أعراض بنات الشوارع وتبيع أطفال"السفاح"الناتجين من اغتصاب هاتيك البنات بواسطة رجال العصابة، لكن المتهمة تمكنت من الهروب والاختفاء. كيف هربت؟ هل هناك من يتستر عليها؟ كما قبض على سيدة معروفة باسم"أم ياسر"تمارس نشاطاً واسعاً في جمع البنات الهاربات من أسرهن خوفاً من الفضائح، تتولى"أم ياسر"رعايتهن والتكسب منهن بطرق ثلاثة: 1- المتاجرة بأجساد البنات خلال فترات الصيف لرواد المصايف الأجانب. 2- بعد ان تحمل البنت وتلد طفلها، يتم انتزاعه منها بالقوة أو بالخداع، ويباع الطفل للأجانب وغير الأجانب في ما يشبه سوق بيع للأطفال منتشرة في مصر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة سبق لي الكتابة عنها خلال الثمانينات في مجلة"تضامن المرأة العربية"، التي أُغلقت من دون سند قانوني. 3- تؤخذ الأم الوالدة الصغيرة، فتدفن في الحفرة المعدة لها، لكنها قبل ان تُدفن يستأصلون منها الكليتين والقرنية والكبد وغيرها، لبيعها في أسواق الأعضاء البشرية. هذه المعلومات جميعاً نُشرت على مدى السنين الماضية، وأخيراً انفجر الدمل وخرجت الرؤوس من تحت الرمال، وصاحوا: ما الحل لمشكلة أطفال الشوارع المزمنة، ومنهم 2 مليون طفل غير شرعي، بعضهم من عائلات عالية مثل تلك الطالبة في الجامعة الاميركية التي جاءت اليّ قبل ان تشرب السم وتنتحر؟ ليس الحل هو جمع هؤلاء الأطفال 3 مليون على الأقل، شرعيين وغير شرعيين ووضعهم في الملاجئ او في رعاية الجمعيات الخيرية او الأهلية او الحكومية، فلم يحدث في العالم غرباً وشرقاً ان استطاعت هذه المؤسسات حكومية وغير حكومية وإن زاد عددها وزاد تمويلها ان تستوعب هذا العدد الهائل من أطفال الشوارع. اهتدت بلاد العالم في الغرب والشرق، ومن مختلف الأديان، بما فيها إندونيسيا، الى ان الحل ليس رعاية أطفال الشوارع في الملاجئ والمؤسسات، بل هو: القضاء على الأسباب التي تدفع بالأطفال الى الشوارع. دعيت الى إندونيسيا لافتتاح المؤتمر الدولي لكاتبات المسرح في 19 تشرين الثاني نوفمبر 2006، والتقيت كاتبة مسرحية معروفة في جاكارتا، اسمها راتنا سارومبايت، كانت رئيسة المؤتمر، وشاركت ابنتها في المؤتمر: فتاة ممشوقة، تلمع عيناها بالذكاء. سألتها: ما اسمك؟ قالت: اسمي Atiquq Hasi Holan تصورت ان هذا هو اسمها الثلاثي الذي يحمل اسم أبيها وجدها لأبيها، لكنها قالت لي: اسمي باللغة الإندونيسية يعني: أنا أحب الحرية. اندهشت: هل هذا اسم؟ هل هذا اسمك الثلاثي في شهادة ميلادك؟ قالت: نعم انه اسمي الثلاثي. وشرحت لي والدتها الأستاذة رئيسة المؤتمر والكاتبة المسرحية المعروفة في إندونيسيا. قالت: القانون في بلادنا يعطى الطفل المولود الاسم الذي تختاره الأم او الأب او شخص آخر في الأسرة او خارجها، وينص القانون على ان جميع المواليد يتمتعون بالشرعية والشرف وجميع الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن في الدولة، بصرف النظر عن الطريقة التي جاؤوا بها الى العالم. اشتدت دهشتي، وسألتها: ألا يوجد عندكم مشكلة أطفال سفاح او غير شرعيين؟ قالت: جميع الأطفال في بلادنا شرعيون، واستطعنا بالقضاء على مشكلة الأطفال غير الشرعيين إنقاذ 75 في المئة من أطفال الشوارع في بلادنا، وأغلبهم بنات كن يلدن في الشوارع، تستغلهن مؤسسات تتاجر في البشر وأعضائهم، عصابات للرقيق دولية تتخذ أسماء إنسانية خادعة، وتتخفى في حماية قوى سياسية ودينية في معظم البلاد. وتابعت الكاتبة الإندونيسية كلامها: بقي عندنا 25 في المئة من أطفال الشوارع الذين يدفعهم الفقر او قسوة الأهل للهروب من البيت، وهذه مشكلة لها خطط طويلة الأجل، لأن القضاء عليها يلزمه القضاء على الفقر والبطالة المتزايدة، وهذا يلزمه القضاء على الاستعمار الخارجي وأعوانه في الحكومة المحلية، وهي شروط لتحقيق التنمية الاقتصادية، وزيادة الإنتاج الوطني، ورفع الوعي، وكلها تحتاج الى تغيير كامل للنظام الحاكم. أما قسوة الأب أو الأم فمشكلة ربما أصعب من القضاء على الفقر، لأن الحل في تغيير عقلية الأب ليفهم معنى الأبوة الحقيقية، أي المسؤولية تجاه أطفاله، وعدم التخلي عن هذه المسؤولية ابداً لإشباع رغباته الجنسية بالزواج بأخريات، او بإنفاق أمواله على نفسه ومتعه المتعددة، وكذلك تغيير عقلية الأم لتفهم حقوقها كأم وحقوق أطفالها ولا تتخلى عن هذه المسؤولية أبداً، وتفرض على أبيهم الالتزام بمسؤولية الأبوة، وكذلك تغيير عقلية المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية والأخلاقية، بحيث لا يعاقب أي طفل على أي جريمة يقترفها الأب أو الأم، فالطفل المولود مواطن مستقل عن أبيه وأمه، له حقوق المواطنة كاملة، بحيث لا تعاقب الفتاة اجتماعياً أو أخلاقياً إن خدعها رجل وحملت من دون عقد زواج موثق، ويكون لها جميع حقوق المواطنة هي وطفلها او طفلتها التي تولد من غير أب. هل يمكن ان يصدق أحد ان القوانين في إندونيسيا اكثر إنسانية وعدالة من القوانين في بلادنا؟ بل قوانين أغلب بلاد العالم، في الشرق والغرب، من شمال أميركا الى جنوب أفريقيا، ومن استراليا وإندونيسيا شرقاً الى فرنسا وإسبانيا غرباً، أصبحت هذه القوانين لا تعاقب الطفل لأن الأب نذل بلغة نزار قباني. الأب النذل هو من يمارس الجنس مع امرأة ثم يرفض إعطاء اسمه للمولود، لمجرد انه لم يوقع على ورقة! أهناك نذالة اكثر من هذا؟ وماذا نقول عن أمة بكاملها تتواطأ مع هذا الأب النذل ضد المولود البريء الذي لا حول له ولا قوة. الأب غير الشرعي الهارب هل نرفع رؤوسنا من الرمال ونواجه مشاكل أطفال الشوارع وفي مقدمهم الأطفال ضحايا الأنذال من الرجال، متزوجين او عزاباً، شباباً أو كهولاً، يخدعون البنات باسم الحب او الزواج، او التهديد، او الإغراء، ثم يهربون من مسؤوليات الأبوة. القانون في مصر يحمي الأب النذل لأنه رجل وإن كان زانياً! ألم يعترف أحد الممثلين في مصر انه مارس الجنس مع فتاة ثم رفض ان يعطي اسمه للطفلة المولودة، ورفض كل الطرق لإثبات أبوته بما فيها تحليل الشفرة الوراثية DNA. ولولا كفاح الأم المهندسة وأبيها الدكتور على مدى عامين كاملين لما خرجت القضية الى المحاكم والرأي العام. ولولا نزاهة القاضي وضميره الحي لأصبحت هذه الطفلة البريئة ضمن أطفال السفاح او غير الشرعيين، وليس لها حق في القانون سوى ان تحمل اسم أمها وتحمل معه لقب"ابنة الزنا"، وتحرم من كثير من الحقوق الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية التي يحظى بها من يحملون اسم الأب ويتمتعون بالشرعية. جاءتني قبل ايام امرأة تشتغل في البيوت بأجرة يومية. حكت لي قصتها. تزوجت وأنجبت بنتين أرسلتهما الى المدرسة، ودفعت النفقات من راتبها لأن الأب ترك أسرته وتزوج امرأة اخرى، ثم طلق زوجته الأولى ام البنتين. حاولت الأم ان ترفع على مطلقها قضية نفقة من دون جدوى. اختفى الأب من الحي كله ولم تعرف له عنواناً. اضطرت الأم ان تترك شقتها، وتسكن في غرفة في حي شبرا الفقير، وكان لا بد لها ان تحاول نقل أوراق ابنتيها من المدرسة الابتدائية في حي المعادي الى مدرسة في حي شبرا، إلا ان إدارة المدرسة رفضت تسليم الأم الأوراق، على رغم إثباتها انها الحاضنة الرسمية لابنتيها. قالت لها المديرة: الأم الحاضنة او الأم الوصية ليس لها حق الولاية على أطفالها، ولا بد من ولي الأمر وهو الأب كي يتسلم الأوراق بنفسه، بحسب القانون. تعذبت الأم عامين كاملين، تبحث عن الأب بلا جدوى. وبحث المحامي الذي دفعت أجره إحدى الأسر التي تشتغل الأم عندها عن أي ثغرة في القانون تسمح بسحب أوراق ابنتيها من المدرسة، من دون جدوى. وصلت الأم من طريق مخدوميها من الأسر الكبيرة الى بعض المسؤولين الكبار في وزارة التعليم، وعلى رأسهم الوزير، لحل مشكلتها من دون جدوى وحصلت على وساطات حكومية وغير حكومية، من دون جدوى ايضاً. لم تتمكن الأم من نقل ابنتيها الى مدرسة قريبة من مسكنها في شبرا، وظلت تتكبد كل يوم في سبيل مرافقتهما الى مدرستهما من شبرا الى المعادي، ما يساوي نصف أجرتها اليومية، وأخيراً بعد عامين من الشقاء، تمكنت من الوصول الى أم زوجها، أو جدة الابنتين، وأخذت تتوسل إليها بالدموع مع دموع حفيدتيها الطفلتين أن توصلها الى الأب الهارب، وذهبت الجدة العجوز، توسلت الى ابنها أن يرحم طفلتيه ويذهب الى المدرسة ويسحب أوراقهما لنقلهما الى المدرسة الابتدائية في شبرا، ووافق الأب أخيراً شرط أن تتنازل مطلقته، أم الطفلتين، عن قضية النفقة في المحكمة. تنازلت الأم عن القضية وتسلمت أوراق طفلتيها. هذا مثل واحد على أن النظام الأبوي السائد لم يبق صالحاً ولا بد من تغييره ان كان عندنا ضمير. ولإحياء الضمير في بلادنا يجب أن يتغير القانون، فلا يكون للأب وحده الولاية على أطفاله، بل يكون من حق الأم الحاضنة والوصية على أطفالها أو إخوتها الصغار حق الولاية أيضاً، لأن الأم الحاضنة تعيش مع أطفالها وتنفق عليهم أغلب الآباء يتهربون من النفقة وإن حكمت المحكمة يزيفون الأوراق، ومنابع الدخل، حتى تنخفض قيمة النفقة الى أقل ما يمكن. تعيش الطفلة في حضانة أمها حتى تبلغ سن الرابعة عشرة والطفل الولد حتى الثانية عشرة فكيف يمكن أن يظل الأب الهارب من المسؤولية هو صاحب الولاية، وليس الأم التي تعمل وتكد وتشقى من أجل أطفالها؟ علينا أن نطالب بشجاعة بالآتي: 1 - أن نحذف من القانون المصري كلمات من نوع"إبن الزنا""أولاد الحرام"، اللقطاء، أطفال السفاح، أطفال غير شرعيين، هذه الكلمات لا تصدر عن أمة لديها ضمير حي، أو قيم أخلاقية عادلة تعاقب المذنب الحقيقي وإن كان رجلاً وليس الضحية وإن كانت طفلة. 2 - حين يتهرب الأب من المسؤولية سواء كان شرعياً ام غير شرعي لم يعترف بالأبوة تصبح الأم الحاضنة أو الوصية هي صاحبة الولاية على أطفالها حتى يكبروا، ويصبح من حقهم أن يختاروا الولي أو الولية. 3 - ويصبح لاسم الأم الشرف ذاته الذي يكون لاسم الأب، ومن يحمل اسم أمه يكون طفلاً شريفاً له جميع حقوق المواطنة مثل الأطفال الآخرين، وليس ابن زنا. 4 - تتغير المناهج التعليمية والإعلامية والدينية والثقافية بحيث يتعلم الإنسان المصري احترام الأم مثل احترام الأب، وتتولى الأحزاب السياسية والجمعيات غير الحكومية والحكومية مهمة الثقافة والتنوير ومنع الظلم تحت مسميات سياسية أو دينية أو أخلاقية مزيفة. هذه هي البداية لتستعيد أمتنا المصرية ضميرها الغائب. القاهرة أول كانون الثاني يناير 2007