بعد النجاح الكاسح الذي حققته الرواية الأولى للكاتب المصري علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان"، أشفق الكثيرون على الكاتب الشاب الذي قفز إلى الصف الأول للمبدعين دفعة واحدة، وضربت روايته أرقاماً قياسية في التوزيع والمقروئية. فانتشرت حوله اشاعات الحسد وقضايا الانتحال. ثم ضاعف الفيلم المأخوذ عنها اهتمام المعجبين بجسارتها السياسية ورؤيتها الاجتماعية فازداد تشوّق القراء لعمله الثاني. وتصادف حينئذ أن أعاد نشر مجموعة قصصية له بعنوان"نيران صديقة"خيّبت توقعاتهم، فحسبوا أن الرواية بيضة الديك وأنه استنفد رصيده الإبداعي كله فيها. لكنه لم يلبث أن خرج أخيراً بروايته العارمة الثانية"شيكاغو"دار الشروق، القاهرة لينشر جناحه على أفق جديد مثير، فكما كانت العمارة أيقونة مجسدة لمصر بتحولاتها ومواجعها تصبح المدينة الأميركية الشهيرة بعصاباتها وشهواتها الحمراء بلورة شفافة، تتحرك على شاشتها المضيئة مجموعة من النماذج المصرية - الأميركية بأشواقها للعلم والحياة، للمتعة والتقدم، في مركز جامعي رفيع المستوى يضمهم أساتذة وطلاباً، ليجعل منهم مختبراً للطاقات المهاجرة والمستقرة، والأشواق المتحققة والمحبطة في حضن واحد. ولكي نجرب لذة السرد عند علاء الأسواني نقرأ قوله في تقديم المدينة الأميركية:"قد لا يعرف الكثيرون أن شيكاغو ليست كلمة إنكليزية، وإنما تنتمي إلى لغة الألغنوكي، وهي إحدى لغات عديدة كان الهنود الحمر يتحدثون بها... معناها الرائحة القوية، والسبب في هذه التسمية أن المكان الذي تشغله اليوم كان في الأصل حقولاً شائعة خصصها الهنود الحمر لزراعة البصل الذي تسببت رائحته النفاذة في هذا الاسم... وخلال الربع الأخير من القرن السابع عشر حتى الثامن عشر شن المستعمرون البيض حروب إبادة مروعة، قتلوا خلالها ما بين 5 و 12 مليون نفس من الهنود الحمر في كل أنحاء أميركا، ومن يقرأ التاريخ الأميركي يتوقف أمام هذه المفارقة: فالمستعمرون البيض الذين قتلوا ملايين الهنود واستولوا على أراضيهم ونهبوا ثرواتهم من الذهب كانوا في نفس الوقت مسيحيين متدينين للغاية، على أن هذا التناقض سينجلي عندما نعرف الآراء الشائعة في تلك الفترة، حيث يعتبر الهنود الحمر مخلوقات مثل الحيوانات". ومع غزارة المعلومات التي تتدفق خلال الرواية بهذا الإيقاع اللاهب عن المدينة وجامعتها الكبرى"إلينوي"ومركزها الطبي النموذجي خصوصاً قسم"الهيستولوجي"الذي سيعتبر البؤرة المركزية للرواية حيث يمثل الحضن العلمي الدافئ الجامع للأساتذة والطلاب معاً فإن المؤلف الماكر ينتقي من هذه المعلومات ما يوظفه في الأحداث بعد ذلك، فهو يشير مثلاً إلى الحريق الساحق الذي منيت به المدينة عام 1871م وخرجت منه مطهرة شامخة لينتهي إلى أنها تمتلك أفضل نظام للإطفاء في العالم، يستطيع أن يخمد أي حريق قبل نشوبه، من هنا يستهل سرده بحكاية قصة المبعوثة المصرية الجميلة"شيماء محمدي"الطنطاوية الموفدة من جامعة القاهرة، فقد خطر لها بعد أن استقرت في مسكنها الجامعي الأنيق، وتغلبت على الارتباك القروي الأولي، أن تأخذ حماماً ساخناً وتعد لنفسها"صينية مسقعة إسكندراني"تستحضر بها عبق الأهل والوطن وهي تتراقص على أنغام شريط كاظم الساهر"هل عندك شك"حيث ألقت بقرون الفلفل الحار في الزيت المغلي فأحدث سقوطها دوياً هائلاً وأطلق دخاناً كثيفاً في المبنى، لكنها لم تلبث أن دهمها كابوس مرعب، إذ سمعت خبطة رهيبة انفتح الباب على مصراعيه في إثرها، واندفع رجال ضخام احتضنوها بقسوة وأخرجوها عنوة، وأفاقت في بهو المبنى على كل زملائها وقد خرجوا مسرعين بعد أن دوّت صفارات الإنذار، ووجهت إليها تهمة الشروع في إحراق المبنى، ولم ينقذها سوى سخرية زميلها المصري طارق حسيب الذي شرح لرجال الإطفاء عمليات الطهو المصرية ونبهها بقسوة إلى ضرورة الحذر في إعدادها بطريقة متحضرة، مع أنه سيصبح بعد ذلك رفيقها الذي سينعم وحده بلذة طعامها وعذاب حبها العذري المحافظ حتى نهايته الغريبة المؤسية في آن واحد. مصريون في المهجر يتابع علاء الأسواني فتنته بالقالب الكلاسيكي في السرد بضمير الغائب المحيط بكل شيء علماً، لكنه يستثني هذه المرة راوياً واحداً يشير إليه في مطلع روايته قائلاً:"الفقرات المطبوعة بالحرف الأسود المائل هي طبق الأصل مذكرات ناجي عبد الصمد التي كتبها أثناء الرحلة"وكأنه يخترق هذا الجدار التقليدي بتيار شبه ذاتي يحاكي فيه تجربته الشخصية في الدراسة في الجامعة ذاتها ليقدم نكهة الحياة كما خبرها بنفسه، ومع أنه يصوغ ملحمة الدارسين والأساتذة المصريين والأميركيين وعائلاتهم في المهجر في رواية مطولة تربو على أربعمئة وخمسين صفحة بإيقاع متلاحق وتبادل سريع بين المواقف والشخوص فإنه يعمد إلى إثارة التشويق المتصاعد وأحياناً اللاهث، بترك اللحظات المتوهجة معلقة لمدد متفاوتة، قد تبلغ أحيانا مائة صفحة، لكنه يحافظ دائماً على تشابك الخيوط في نسيج محكم وتلاقي المصائر من دون تعقدها أو ضياعها. ما يشير إلى إمكانية عالية، وموهبة فائقة في تخطيط الأبنية الدرامية للسرد وانصبابها في بؤرة جامعة، تلتقي فيها السياسة بالعشق في جدلية متلاحمة، وتتوهج فيها مجموعة من الشخوص النموذجية التي يصعب نسيانها بعد ذلك. لنأخذ مثلاً الدكتور رأفت ثابت الذي يعترض في المشاهد الأولى على قبول الطالب المتفوق ناجي في قسمه لمجرد أنه مصري. فإذا ما عرفنا شيئاً عن تاريخه الشخصي زال عجبنا من هذه النظرة السلبية لمن كانوا مواطنيه، فقد هاجر من مصر إلى أميركا أوائل الستينات بعد أن أمم عبدالناصر مصانع الزجاج التي كان يملكها أبوه محمود باشا ثابت، وعلى رغم القبضة الحديد للنظام فقد استطاع أن يهرب بمبلغ كبير بدأ به حياته الجديدة، فتعلم حتى حصل على الدكتوراه، وعمل بالتدريس في جامعات أميركية عدة حتى استقر في شيكاغو منذ ثلاثين سنة، وتزوج من الممرضة ميشيل وحصل على الجنسية الأميركية وصار أميركياً في كل شيء. أما كرم دوس الجراح الناجح الذي يلتقي به ناجي في بيت أستاذه الأميركي فهو نموذج آخر للمهاجرين الأقباط الذين فروا من مصر هروباً من الاضطهاد في تقديرهم، فقد صادف عند تخرجه أن كان رئيس قسم الجراحة في طب عين شمس مسلماً متشدداً فرفض تعيينه في الكلية، ويحتدم الجدل أولاً بينه وبين ناجي - الصادق في شعوره الوطني - والحامل رؤية الكاتب حيث يرى أنه لا توجد في مصر مشكلة قبطية، بل هناك أزمة ديموقراطية تشمل جميع المصريين ومعاناة الأقباط جزء منها، فإذا قال له كرم: إن الأقباط يتم تجاهلهم في مناصب الدولة العليا، ويتم الاعتداء عليهم كما جرى في حادثة الكشح التي راح ضحيتها عشرون قبطياً أمام أعين الشرطة التي لم تتحرك لنجدتهم، يرد عليه بأنها مأساة محزنة لكن المصريين جميعاً يموتون يومياً في أقسام الشرطة ومقار أمن الدولة، فالجلادون لا يميزون بين مسلم وقبطي، والنظام السياسي والأمني الفاسد يضطهد الجميع. وعلى رغم احتدام وتبادل الاتهامات وانصرافهما مغضبين لم يلبث كرم دوس أن زار ناجي واسترضاه وأقام معه صداقة حقيقية، وحكى له مفارقات الأقدار عندما تعين عليه أن يجري عملية كبرى لإنقاذ حياة الأستاذ الذي اضطهده، بل ويشترك مع المبعوث الوطني في عمل ثوري ينتهزون فيه فرصة زيارة الرئيس المصري لشيكاغو والتخطيط للقائه بالمبعوثين، فيعدون بياناً احتجاجياً ينتقدون فيه الأوضاع الأمنية في مصر. على أن صورة المصريين لا تكتمل من دون الإشارة إلى الدكتور أحمد دنانة رئيس رابطة المبعوثين ومدير مصالحهم والعضو البارز في أمانة الشباب بالحزب الحاكم والذي يعتبر مثلاً عجيباً للانتهازية والوصولية والقدرة على ترويض الطلبة والتلاعب بمقدراتهم، بينما هو نفسه نموذج للفساد في غشه الدراسي وعمالته لرجل الأمن الكبير في السفارة ولي نعمته العميد طلعت شاكر، ولا تفضح الدكتور دنانة سوى زوجته التي تنفر من ملامحه الغليظة وتدينه الزائف وكرشه البارز مع بخله المقيت، تقرر الزوجة أن تستجيب رغبته في العمل في السفارة سكرتيرة لرجل الأمن القوي، فتكشف في اليوم الأول نياته في غوايتها وتجبه زوجها بالحقيقة قبل أن تهجره بغتة عائدة الى الوطن لطلب الطلاق المشروع والمبرر. طابع الحياة الأميركية تضرب رواية "شيكاغو" بعمق في مناطق حساسة من الجسد الأميركي الحيّ، فتقدم فلذات كاشفة عن طبيعته ومكمن قوته وضعفه، ومن أبرز ملامحه الإنجاز العلمي المشهود الذي تجسده الجامعة بنظمها وأساتذتها، أحدهم مثلاً، وهو البروفسور بيكر المشرف على العديد من الطلاب المصريين"صنع مجده يوماً بعد يوم بدأب نملة وإخلاص راهب، حتى تحول إلى أسطورة، وأصبح الحديث في"إلينوي"يتردد بقوة منذ سنوات عن احتمال فوزه بجائزة"نوبل"لنبوغه في تصوير الخلايا". وتبرز الرواية سمات أخرى مائزة لهذا المجتمع تجسد مصائر أبنائه والقاطنين فيه، فالأستاذ غراهام نفسه يعايش صديقة تصغره من السود، وقد أغلقت أمامها جميع فرص العمل لطغيان التمييز العنصري على المؤسسات والشركات فاضطرت إلى العمل سراً فتاة إعلانات لا يظهر وجهها عند عرض الملابس الداخلية، لكنها تنزلق بسهولة إلى خطيئة لا يستطيع رفيقها العجوز أن يغفرها عندما يكتشف بحدسه الفائق أثر رجل سواه على أدائها. والصداقة المحافظة البريئة للمبعوثة الطنطاوية الجميلة شيماء محمدي مع زميلها طارق حسيب لا تلبث أن تلقي بهما في مصحة لمساعدة النساء على الإجهاض الآمن على رغم اتخاذهما كل الاحتياطات اللازمة، والراوي الوحيد الذي يتحدث باسمه وهو ناجي يقع في غرام فتاة يطبق معها قانون خطوات الحب الأميركية من الحديث الضاحك إلى الدعوة إلى مشروب ثم طلب رقمها الخاص ودعوتها الى العشاء قبل أن يصطحبها إلى منزله، يكتشف صاحبنا أنها يهودية، ومع ذلك يظل مرتبطاً بها حتى تدهمه الشكوك فيتصور أنها هي التي سهلت لرجل الأمن المصري اقتحام مسكنه وتفتيشه وتهديده بالانتقام من أسرته إن مضى قدماً في خطة لمجابهة الرئيس بالبيان الاحتجاجي، ما يجعله يضطر الى التراجع والإيعاز لأستاذ آخر محايد هو الدكتور محمد صلاح بمهمة إلقاء البيان. على أن هذا الأستاذ بدوره ممسوس بأمراض المجتمع الأميركي المزمنة، فابنته تهجر منزل أبيها للإقامة مع صديقها البوهيمي الذي يجرها الى دوامة الإدمان، وعندما يبتعد عن زوجته الأميركية التي شجعتها على هذه الخطوة تبحث الزوجة عن بدائل للمعاشرة في استخدام أجهزة التعويض الجنسية، وهنا تزيد جرعة الفحش قليلاً عن المنسوب المسموح به، على رغم محاولة الكاتب الطبيب أن يضفي عليها صبغة علمية، المهم أن الدكتور محمد صلاح تخونه شجاعته في اللحظة الفاصلة فلا يلقي البيان الاحتجاجي ويستبدل به كلمة مجاملة عادية، ثم لا يطبق هذا الجبن الذي غلبه فينتقم من نفسه بالانتحار. وفي فورة هذه الحزمة من الفواجع التي تنهي قصص الرواية الفرعية يتجلى بؤس نضال الشباب المصري من أجل العلم والحرية في المهجر الأميركي، وتتبلور صورة هذا المجتمع الجهنمي الذي يطحن بآلياته الضخمة طموح أبنائه وهو يدفع بعضه الى الصعود إلى ذروة المجد والنجاح. ويحقق مرة أخرى وصفته السحرية للرواية المعتمدة على السياسة والجنس والأهداف المثالية المحيطة، لكن باقتدار سردي لافت وتشويق قصصي فائق، وقدرة هائلة على تمثيل الحياة بأبعادها المختلفة.