ثقافة قمع - 1 ما الذي تدل عليه المقالات السابقة عن محاولة اغتيال نجيب محفوظ وسياقاتها الثقافية التي تتبادل التأثر والتأثير مع العوامل السياسية والاجتماعية والأدبية والاعتقادية؟ أتصور أنها تؤكد عدداً من الدلالات التي لابد من توضيحها وإبرازها. أولها: أننا نعيش في ثقافة قمع، هى اللازمة المصاحبة للتسلط السياسي والتطرف الديني والتراجع الاجتماعي والجمود الاعتقادي. والقمع يعني - أول ما يعني - فرض الرأي من الأعلى على الأدني بالقوة المباشرة وغير المباشرة، وذلك على نحو يدعو إلى التصديق والتسليم من دون مساءلة من ناحية، وإلغاء حق الاختلاف أو المغايرة أو أي تشكك من الأدنى فيما يرسله الأعلى من ناحية مقابلة. ووسائل القمع عديدة: تبدأ من رمزية المسميات، وتثنى برمزية العلامات، وتنتقل من الرمزية إلى الواقعية، أو من الدال الدافعي إلى المدلول الذي يُحيل الدافع إلى فعل من أفعال الممارسة التي توقع العقاب على المخالفين، ساعية إلى إرهابهم كي يرتدعوا، أو إلى استئصالهم المادي بعد المعنوي، أو في موازاته. وقد يكون الطرف القامع، متمثلاً في دولة تسلطية مسلحة بأجهزتها القمعية المباشرة، أو أجهزتها الإيديولوجية، كما يمكن أن يكون مجموعة أو مجموعات موازية للدولة، أو مناهضة لها، ساعية إلى انتزاع السلطة منها، وإقامة دولة مغايرة، ذات طابع ديني معاد للدولة المدنية، كما نرى هذه الأيام، أو ذات طابع سياسي مختلف، يسعى إلى تجسيد أهداف مغايرة، ومصالح متباينة. وأخيراً، يمكن أن يكون القمع فعلاً فردياً، معنوياً أو مادياً، يحدث بأن يفرض إنسان على إنسان ما يريد بمنطق القوة نفسه، لاجئاً إلى أساليب التخويف أو الترويع، المباشرة أو غير المباشرة، المادية أو المعنوية، وذلك على نحو يصبح معه الطرف الأول فاعلاً للقمع، والثاني منفعلاً به، أو موضوعاً يمارس عليه سلطة القمع من هو أقوى منه، أو من يعتقد في نفسه القوة التي يؤكدها بوسائل رمزية أو غير رمزية، هدفها إيقاع التصديق والتسليم من الطرف الثاني الذي لا بد أن يكون تصديقه وتسليمه من دون مساءلة أو تشكك من ناحية، وبلا أي ممارسة لحق الاختلاف أو التمسك به من ناحية مقابلة. ولا يفارق المدلول اللغوي للقمع هذا البعد في تجلياته المختلفة، فكلمة القمع دال ترتبط دلالاته بالذل والقهر، وصرف الطرف المفعول به، أو فيه، عن ما يريد، أو يعتقد، أو يرى، وذلك من طريق العنف الذي يبدأ من الممارسات الرمزية للغة، وينتهي بالممارسات الفعلية التي تستبدل بالكلمات الأفعال، وبالألفاظ الأسلحة بأنواعها. وعادة ما تقع بين رمزية اللغة وأنواع العنف العاري مستويات متدرجة. والبداية آليات التخييل اللغوي، ومثالها الأول رمزية التسمية التي تصاحبها رمزية الشعار أو العلامة عادة. وتقترن رمزية التسمية بإطلاق الاسم الذي يحصر صفات الإيجاب في الطرف الأول، الفاعل، مستبعداً إياها، ضمناً أو صراحة، من الطرف الثاني - المفعول: وذلك مثل إطلاق تسمية"الإخوان المسلمين"أو"إخوان الصفا"أو"دولة الإيمان"أو"الفرقة الناجية"على مجموعة بعينها ضمن مجموعات إسلامية مغايرة في التفكير والعقلية والغاية. والهدف هو حصر الصفة الإيجابية للإسلام، أو الصفاء، أو النجاة، في الطرف الأول، وإلصاقها به وحده، أو جعلها دليلاً عليه، واستبعاد هذه الصفة أو تلك، بلوازمها وترابطاتها الدلالية، من دوال الطرف الثاني ومدلولاته، وحرمانه منها بما يضعه في المنزلة الأدنى، والدائرة التي تخلو من معاني الإيجاب، ولا يمكن اتصافها به إلا بالتخلي عن ما تنطوي عليه من دلالات مذمومة بفعل التسمية القمعي. ومن الذي يرفض، فرداً أو جماعة، أو حتى دولة، في محيط إسلامي بالغ الاتساع، أن يكون من"الإخوان المسلمين"متسماً بالصفاء، مقترناً بدلالة"الفرقة الناجية"التي تعني الإسلام الحق، أو الصفاء الكامل والنقاء المطلق المحصور في مسماها، والمقصي لكل المسميات الأخرى التي تغدو، بقوة القمع التخييلي للغة، مسميات ضالة مضلة، لا نجاة فيها، ولا صفاء، ولا إسلام. ويتحقق الأمر نفسه بالرمزية القمعية للشعار أو العلامة، وأبسط أمثلتها إشارة المرور الحمراء التي تنذر من يخترقها بالموت أو الدمار، وتفرض عليه الانتظار إلى أن يرى نقيضها الأخضر الذي يعني الأمن، ويسمح بمواصلة السير في الاتجاه المقصود، خصوصاً بعد أن يتحرر السائر من الحواجز الدلالية للإقصاء والنهى والتخويف المضمر، في ترابطات العلامة الحمراء. وهو الأمر عينه الذي يحدث عندما تتخذ جماعة من الجماعات التي تحصر صفة"الإسلام"في مسمّاها، مقصية إياه عن غيرها بسطوة التسمية الدلالية. أقصد حين تتخذ جماعة مثل جماعة"الإخوان المسلمين"مثلاً، شعار"المصحف والسيفين المتصالبين". وهو شعار يقرن بين دالين ومدلولين: دال الإيمان والنجاة المتضمنين في دستورها ودليلها -"المصحف"- ودال القوة التي ترهب بها العلامة"أعداء المجموعة"الذين يدخلون بسطوة الشعار الرمزية، دائرة أعداء الإسلام، وأعداء قرآنه الذين لابد من جهادهم وقمعهم باستخدام العنف المادي الذي يرمز إليه السيفان، كي يعودوا إلى حظيرة الإيمان والنجاة، إذا كانوا من الدين نفسه، كي ينالوا ثواب الدنيا ونعيم الآخرة، وإلا فوطأة المصاحبات الدلالية لتخييلات القمع التي يؤديها التأويل الموجّه للآية المصاحبة لشعار المصحف والسيفين:"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم"الأنفال / 06. وهو تأويل يؤدي دوره، في هذا السياق، بإسقاط إرهاب أعداء الله على أعداء الجماعة، كي يدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد في نفس المتلقي الذي يغدو مفعولاً للتخييل الذي ينذر بإمكان التحقيق. وأتصور أن لجوء فرقة من الفرق الإسلامية إلى مثل هذه التسمية الحصرية والشعار - العلامة إنما هو نوع من الممارسة الرمزية للغة في أولى درجاتها القمعية التي توحي بما بعدها، سواء للمنفعلين بها في ميلهم إلى التصديق، أو غير المنفعلين في ميلهم إلى مساءلة دلالة التسمية والشعار - الرمز. أقصد إلى الدلالة التي قد تنتهي المساءلة غير المذعنة لها إلى أن الإسلام أوسع من أن يحصر في أخوة مجموعة بعينها، والصفاء ممكن لكل فعل إسلامي أو غير إسلامي يمضي في طريقه الذي ينتهي بالسعادة التي تحدث عنها فلاسفة الإسلام. أما"النجاة"فهي قرينة هذه السعادة، وأحد الممكنات المتاحة لكل مسلم، حتى لو لم يكن متصفاً بصفة"الإخوان"الإقصائية، أو مؤمنا بشعار السيفين المتصالبين في علاقتهما بالرمز الإسلامي:"المصحف"الذي يمكن أن تترابط دلالته - في سياق المساءلة - وأحد المعاني التي تؤديها آيات من مثل:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"النحل/521 أو"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن النحل/52 وأخيراً"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"فصلت/43. وتكرار"المجادلة بالتي هي أحسن"مقرون بالاختلاف الذي هو طبيعة إنسانية"ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"النحل/2. أو"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"المائدة / 84. أقصد إلى الاختلاف الذي يوجب المجادلة السمحة، سواء بين أبناء الدين الواحد، أو أبناء الديانات المختلفة، فهذا النوع من المجادلة أساس الحضارة الإنسانية، ومنطلق التقدم في الأمة، أو الدين الذي تتعدد فرقه وطوائفه وتياراته، من دون ميزة لأحد على أحد، فالكل مسلمون في حالة الإسلام، ومسيحيون في حالة المسيحية...إلخ. أما"الإرهاب"لعدو أو جماعة من الجماعات أو طائفة من الطوائف أو فرقة من الفرق، بواسطة التسمية والشعار - العلامة، فهو نوع من أنواع القمع الذي أتحدث عن مستواه الرمزي الأول الذي تؤديه اللغة، تمهيداً لمستويات أشد قمعاً. وقد ابتلينا بأصناف النوع الثاني من القمع الأشد وطأة، حيث فعل العنف العاري يحل محل الكلمات، مع هيمنة الدولة التسلطية التي نقلت القمع من رمزية اللغة إلى رمزية القوة المادية، واصلة بين المدلول المادي والمدلول المعنوي الذي يرجع إلى المصاحبات الدلالية للأصل اللغوى نفسه، حيث يقترن معنى الجملة"ضَرَبَه بالمِقْمَعة"بالضرب بآلة فوق الرأس، وحيث"قَمَعَ البردُ النبات"أحرقه فلم يطل. وأخيراً، حيث المقمعة والقامع خشبة أو حديدة يضرب بها الإنسان ليذل. والإشارة إلى الأداة المادية تستوعب مدلولات ومفردات عديدة في هذا السياق، تبدأ من جذور التخلف وأصول القمع في تراثنا، أو تاريخنا الذي لم يكن كله مجادلة بالتي هي أحسن، وأكاد أقول - لولا مخافة التعميم - الذي تغلب عليه المجادلة بالتي هى أقمع. ولكن ما يمكن قوله - دون خوف من تعميم - إن المجادلة بالتي هي أقمع، في زماننا العربي، ترجع إلى أصول قديمة، تتجلى في أشكال حديثة، مع ظهور وطأة"الدولة التسلطية"ذات الصفات العسكرية القومية في الأغلب الأعم. وقد سبقني زميلي خلدون النقيب - كما قلت في دراسة سابقة - إلى تعريف"الدولة التسلطية"في كتابه"المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية"ودراسته التأسيسية عن"الأصول الاجتماعية للدولة التسلطية في الشرق العربي"، فالدولة التسلطية هي الدولة القائمة على الاستبداد والانفراد القمعي بالسلطة، وذلك في احتكارها لمصادر القوة في المجتمع لصالح الطبقة أو النخبة الحاكمة. وتدل عليها خصائص مائزة، أولاها: اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته التضامنية إلى تنظيمات تعمل بوصفها امتداداً لأجهزة الدولة. وثانيتها: اختراق النظام الاقتصادي، عن طريق التأميم أو توسيع القطاع العام والهيمنة البيروقراطية على الحياة الاقتصادية، سواء تحت شعارات اشتراكية زائفة تغدو قناعاً لرأسمالية دولة تابعة، أو قناعاً لعمليات الاستيلاء على الفائض الاجتماعي وفائض القيمة الرأسمالية، أو تحت شعارات ليبرالية تسعى إلى التحرر من قيد الاشتراكية الذي تستبدل به طوق التبعية للنظام الاقتصادي العالمي في زمن العولمة التي لا تعترف باستقلال الدول الوطنية بمعناها القديم. وتتصل ثالثة هذه الخصائص بأن شرعية نظام الحكم في هذه الدولة تعتمد على الأجهزة القمعية أكثر من اعتمادها على الشرعية التقليدية، فلا توجد انتخابات لها معنى، ولا تنظيمات مستقلة عن الدولة. ويغيب وجود الدساتير الفاعلة، أو يتم إلغاؤها، أو تأجيل العمل بها، وتجميد الحقوق المدنية، أو عدم الاعتراف المعلن أو المضمر بها. ولا ينفصل عن ذلك تحويل نسبة عالية من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية التي لا تبخل عليها الدولة لحمايتها والإبقاء عليها، أما الخاصية الأخيرة فتتصل بعمل الأجهزة الإيديولوجية لهذه الدولة، سواء من حيث ما تقوم به من ترسيخ حضورها وتبرير أفعالها وتحسين صورتها في أذهان الجماهير، أو تأكيد معنى"الإجماع"الذي يغدو تصديقاً وتسليماً بما تراه النخبة الحاكمة، أو إشاعة صفات"اليقين"وپ"الوثوقية"وپ"التحيز"الملازمة لآراء هذه النخبة. ولا ينفصل عن ذلك الإلحاح على مركز القيادة التي يدور حوله كل شىء، فلا يفارق معنى الحضور الملهم للزعيم الواحد الأحد، واستبدال مبدأ"الوحدة"بمبدأ"الحرية"في موازاة تثبيت دعائم التراتب الهرمي بين القيادات والمؤسسات، ومن ثم الفئات والطوائف والطبقات وذلك بما يبقى على الطاعة المطلقة من المرءوس للرئيس بالمعنى الذي لا يفارق ملامح"البطريركية"في المجتمع العربي كله - إذا استخدمنا التسمية التي اختصر بها هشام شرابي وضع المجتمعات العربية في تباعدها عن صفات الحداثة ونفورها من التحديث الملازم لها. هذه الخصائص التسلطية علامة على التشابه الواقع بين بناء الدولة الدينية من ناحية، والدولة العسكرية الباطشة من ناحية ثانية، والدولة المدنية المعادية للديموقراطية من ناحية أخيرة، فالانفراد القمعي بالسلطة واحد في كل الأحوال، واحتكار مصادر القوة والسلطة لصالح الفئة الحاكمة متكرر في الثلاث، واختراق مؤسسات المجتمع المدني النقابات والاتحادات بداية النفوذ المتزايد لدعاة الدولة الدينية والنتيجة الطبيعية للدولة العسكرية واللازمة المنطقية للتسلطية المدنية. وأضف إلى ذلك القواسم المشتركة التي تصل بين التجليات الخاصة بالهيمنة، حيث الرعايا أشباه العبيد المحرومون من حقوقهم الإنسانية. ويتحول عنف التضاد بين الفرقة الناجية والفرق الضالة في الدولة الدينية إلى ما يشبه العنف نفسه الذي يفصل بين الثورة وأعداء الثورة، أو الوطن وأعداء الوطن في الدولة العسكرية أو المدنية. وتتكرر الثنائيات الضدية المتماثلة في الآلية والوظيفة القمعية، فيستأصل التقليد الاجتهاد، والتصديق المساءلة، والقبول المذعن الاختلاف الخلاق، وواحدية الإجماع تعددية التيارات وتنوعها.