محيّر أمر التلفزيون جهازاً ومحطات. ففي لحظة، تكره الجهاز الكبير القابع أمامك، كل الوقت، وشاشته التي تشبه العين المغمضة. تكره لونه الداكن أو الفاتح، والصندوق الرازح تحت ثقله والمتخم بشرائط فيديو قديمة وأقراص"دي في دي"جديدة وأسلاك الپ"بلاي ستايشن"للأولاد. تكره كل ذلك لأن وجوده إجباري كآلة البيانو الضخمة التي لم يعد يريد"الصبي"أن يعزف عليها، بعد شرائها فوراً، عملاً بنصيحة الأستاذة المزمومة الشفتين. وفي اللحظة التالية، تشعل الجهاز، فتتوهّج الشاشة وتختفي كل الأشياء التي تكرهها في الظلمة المحيطة، وتشرع في المشاهدة، وكأن شيئاً لم يكن. ولكنّك لا تلبث أن تضجر، وتعاودك نوبة الكره. كره البرنامج والمذيع والمطربة لا المؤدّية والدعاية التي تدندن كلماتها ولا تشتري المنتج ولقطة العراك في الفيلم الأميركي... كره المضيفة والضيوف، والمتّصل الذي يصبح"الأخ السائل"بالنسبة إلى الضيف، علماً أن السائل هو الشحاذ... وكره الحيوانات القوية والضعيفة... أحياناً، قد تتوقّف عند عمل"مميّز"، تقع عليه، بالمصادفة، ويكون متغلغلاً في طيات قناة تكرهها أو تكون امتنعتَ منها لوقت طويل. بالأمس، خصص المذيع زافين قيومجيان في برنامجه"سيرة وانفتحت"، على تلفزيون المستقبل اللبناني، حلقة لمراجعة كتاب. وكان موضوعها كتاب الشاعر والزميل يوسف بزي"نظر إليّ ياسر عرفات وابتسم". واستضاف فيها إلى بزّي، الزميل ابراهيم العريس. فجأة، دار حديث، حديث عادي، كالأحاديث التي تدور في البيوت، أولاً حول الراحل نجيب محفوظ، وثانياً، حول كتاب يوسف. فجأة، استعدنا متعة الفرجة. أطراف حديث تدور حول أمور تعرفها ولا تعرفها... والأهم أنها في ميدان الأدب والثقافة، ولو تخللها، شعبية شخصيات محفوظ ومقاتلي بزّي. فكتاب يوسف يحكي عن"تجربته"في الحرب الأهلية اللبنانية 1975 - 1990. مرّت هذه الحرب بسلاسة. والأهم أننا اكتشفنا ناساً يقرأون، من دون أن نكتشف مدى اهتمامهم بالتلفزيون، ناساً ناقشوا الكتاب، وكدت أن تشاركهم في ذلك. قرّاء من العيار الثقيل باحوا بتجربة قراءة كتاب، أدلوا بما نضح به خيالهم في لحظة القراءة. وهذا الأمر يعتبره كثيرون شأناً شخصياً حميماً. في تلك اللحظات، تشعر برغبة عارمة في القراءة. وفي الوقت نفسه، تقع في تناقض بين هذه الرغبة وانجذابك إلى الحديث. تؤجّل تلبية تلك الرغبة إلى ما بعد الحلقة. تطفئ الجهاز وتقرأ... وليزعل أصحاب المحطات كلها. يبقى أن نقول أن تجربة الكتاب في تلفزيون، بهذه الطريقة، مهددة بالتوقّف... لذا، عليك التحلي بصبر صيّادي الأسماك، لتقع على تجربة مفيدة، في وقت لاحق.