في كليات القيادة والأركان الغربية الرئيسة، يتداول الضباط من متوسطي الرتب - أثناء دورتهم العسكرية - الكثير من المفاهيم والاستراتيجيات الدفاعية/ الأمنية. وتستخدم في المحاضرات وحلقات النقاش، استعارات لغوية معبّرة، ومن أكثرها رسوخاً لدى كاتب هذه الأحرف تعبير"ديناصورات الحرب الباردة"، والمقصود بها: دبابة الميدان، الفرقاطة/ القطع البحرية الرئيسة عموماً، والطائرة المقاتلة. إذ كشفت الحرب الأخيرة عن استنتاجات مختصرها"أن دور الأسلحة الثقيلة أشرف على الانحسار. أين هي ساحة المعركة؟ من هو عدوك وماهية قدراته؟ ما هي الأسلحة التي يمكن أن تتقن استخدامها ومدى فاعليتها؟ ما هي القيود السياسية؟ وأسئلة مكملة أخرى يمكن استعراضها وطرحها على تلك الجيوش؟ سيعكف المنظرون والباحثون والمهتمون مدة طويلة في تحليل هذه الحرب السادسة، والخروج بالاستنتاجات والعبر، والتي بالضرورة ستنعكس على القوات المسلحة في دول عدة، محفزة إياها على المضي في تقويم وتعديل الاستراتيجيات والعقائد العسكرية الحالية ومفاهيم العمليات، التجهيزات القتالية، الأسلحة وتكتيكات استخدامها. ويمكن قراءة بعض العناوين السريعة بعد توقف القتال"ومنها أن المقاومة اللبنانية"أعدت لهذه الحرب. وحققت نتائج عملياتية وتكتيكية، برز فيها الصمود والمبادرة الميدانية، فضلاً عن القدرة - حتى وقت وقف إطلاق النار - على إيصال نيرانها إلى العمق الإسرائيلي، وربما محتفظة ببعض الأوراق الأخرى قصف تل أبيب مثلاً للتعامل مع أي تصعيد استراتيجي من إسرائيل. أكمل ذلك عناصر وأدوات أخرى أدت إلى نجاح المقاومة: الدعم المتعدد الأوجه، الأداء السياسي المتمكن، أوجه الحرب النفسية والإعلامية، وكذلك الطوبوغرافية الجغرافية والبيئية. ومن اللاّفت دور سلاح الكاتيوشا الاستثنائي والأنظمة الأبعد مدى، فهي ربما السابقة الأولى التي يتم الدمج فيها بين وحدات حرب عصابات متمركزة ومتحركة، مع سلاح صاروخي كثيف ومتواصل في استهداف عمق العدو طوال أيام الحرب. لجأت إسرائيل كعادتها الى عصاها الطويلة الغليظة سلاحها الجوي المكون من الطائرات المقاتلة المتفوقة، العمودية الهجومية، وطائراتها غير المأهولة، مدعومة بمنظومة استخبارات واستطلاع لا تُجارى، تدعمها مدفعية الميدان ومدفعية القطع البحرية، جميعها مجهزة بقذائف وذخائر بالغة التطور والفتك. ولكن، في هذه الحرب غير المتوازنة Asymmetrical war، تكون تكتيكات حرب العصابات هي الوسيلة المضادة لدى الطرف الأضعف. حتى عندما بدأت القوات الإسرائيلية البرية بتشكيلاتها من القوات المدرعة والمشاة والقوات الخاصة، دخول الحرب متأخرة، لم يكن نصيبها أفضل من نصيب سلاح الجو، مع أنها هي من تحمّل عبء المعركة والإصابات، حيث أن بقية الأسلحة السابقة تنفذ عملياتها من مسافة آمنة وحماية عالية. وكنتيجة مباشرة، فإن أحد أقوى الجيوش في العالم عجز عن تحقيق الأهداف المعلنة لقيادته السياسة، فلم يستعد الجنديين الأسيرين، ولم يوقف صواريخ المقاومة، ولم يدمر قواتها أو حتى التأثير في شكل واضح على بنيتها القيادية. وعلى رغم أن إسرائيل عمدت في مستوى من إستراتجيتها الحربية - ذات المستويات المتعددة - لاستعادة قوة ردعها المشكوك في جدواها كي لا يجرؤ أعداؤها على شن هجوم مستقبلي، وذلك بضربها البنية التحتية، والضغط المدمر على شطر رئيسي من المدنيين، إلا أن ذلك لم يغير من مجرى المواجهة المباشرة مع المقاومة، بل يمكن المجادلة أن نتائجه أتت عكسية، حيث برز التحام العناصر المؤثرة في الجبهة اللبنانية. لتحتفظ الدول بجزء من سلاحها التقليدي، فلا يزال له دور في بعض الطوارئ، والعمليات المستمرة"استطلاع، دوريات وحماية، ولكن ينبغي أن تكون الأسلحة هذه بأعداد محدودة ضمن إستراتيجية شاملة. على أن يكون التركيز الأكبر في أي قوة حديثة وفعّالة هو على: منظومات C4I الاستخبارات القيادة والسيطرة والاتصالات ضمن مفهوم العمليات المشتركة، معدات وإجراءات الحرب الإلكترونية، المركبات والأنظمة الذكية وغير المأهولة، القوات الخاصة والمنقولة جواً بتسليح فاعل وخفيف الحركة، منظومات الأسلحة التكتيكية والإستراتيجية الهجومية دقيقة التوجيه، ذات قدرة الإطلاق من بُعدٍ نسبي آمن، الزوارق البحرية الخفيفة والمسلحة جيداً. كما ينبغي التركيز على حماية هذه الأنظمة من خلال خفة الحركة، التخفي، والحماية الالكترونية. أما دور منظومات الدفاع الجوي وكثافتها وفاعليتها فهو حاسم في تحييد الهجوم الجوي المعادي أو تقليص هجماته، وهذا ما كانت تفتقده المقاومة اللبنانية بشدة أثناء الحرب، مما أدى إلى ترك سلاح الجو الإسرائيلي يهيمن بالكامل على أجواء لبنان، وبالتالي استهدف البُنى التحتية بوتيرة بالغة التدمير، مسبباً مقتل مئات المدنيين الأبرياء. ينبغي النظر بأهمية بالغة إلى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة - غير المعقدة -، لتكون جزءاً من خط الدفاع الثاني في الحرب، والاحتياط في حالة إصابة أو تعطل أنظمة القتال المعقدة للخط الأول"على سبيل المثال"القذائف المضادة للدروع، المدفعية المضادة للطائرات، الكاتيوشا وما شابهها وبمدى متنوع، حيث أن لها دوراً مؤثراً في الكثير من العمليات القتالية، كما أثبتت هذه الحرب من جانب المقاومة. ويمكن النظر لتجارب سابقة ناجحة لأنواع غير معقدة من تلك الأسلحة ومنها المدفعية المضادة للطائرات المتعددة الأعيرة ذاتية الحركة"إن نُشرت بأعداد كثيفة وتمركزت بصورة عملياتية وتكتيكية ملائمة، حيث تم إسقاط عشرات الطائرات الأميركية في فيتنام، والإسرائيلية في حرب 1973 على الجبهتين السورية والمصرية. هل كان حزب الله يخوض حرباً بالوكالة أو بالأصالة؟ تجنباً للجدل"هذا ليس موضوع هذا المقال. إلا أنه يمكن التوصل إلى استنتاج محدد، وهو أن هذه الحرب تثبت أن القوات المسلحة الثقيلة المعقدة والمتفوقة بهامش كبير - كما هي الحالة الإسرائيلية - يمكن ردعها وتكبيدها خسائر جسيمة والوصول إلى عمق أراضيها، ويمكن الحؤول دون تحقيق أهدافها، وذلك بواسطة قوات غير تقليدية وبأسلحة غير معقدة. وينبغي التأكيد بتكرار"على أن الإنسان الفرد هو جوهر أي قوة دفاعية/ أمنية حقيقة - مثلت المقاومة اللبنانية نموذجاً جليّاً لذلك الفرد -، هو الذي سيقود ويخطط ويتعامل مع منظومات السلاح، والتاريخ يعيد لنا الأمثلة مرة بعد أخرى، وخلاصتها"أن المقاتل المؤهل، الشريك والمكفول في المواطنة أو التنظيم، المسلح بوعي إنساني، بعقيدة وانتماء، بدافع صلب للقتال، هو المرشح لكسب المعركة، وذلك لن يتأتى إلا من خلال ثقافة سلوكية جَمْعيّة ذات تحد وديناميكية، تصوغ عقائد ومفاهيم قتالية وإستراتيجية وسياسية تدير المعركة بكفاءة، ليس بعلم ومنهجية فقط بل بأفكارٍ وحلول خلاّقة تُجترح بما يشبه الفن الإبداعي، ليس أثناء اندلاع القتال فقط، ولكن - أيضاً - قبل ذلك بسنوات مضنية من التخطيط، التجهيز، التسليح، والتدريب. يرفده استعداد وتآزر كل مكونات الدولة والمجتمع. * باحث سعودي