"هذا الشاب يكذب مثلما يتنفس".."حسنا، لكن كذباته بيض".. ومن الأفضل أن نعيد صياغة الجملة، إذاً."هذا الشاب أنفاسه بيض". انه يوم المقابلة. المدير، الذي يحرص على اشاعة أجواء الجدية الكاملة، يختبر المتقدم الى الوظيفة. المكان: مكتب من مئات المكاتب التي تضخ المال والأعمال في بيئة دبي، ليل نهار. الزمان: هناك مقابلة عمل تحصل كل نصف ساعة في المدينة. المدير، مولّد الرهبة، ليس سوى أحد موظفي المستوى الرابع. المقابلة بالانكليزية والمعيار الحاسم للانتقال الى"الجبهات الأمامية"، ومقابلة المديرين الأشد رهبة، هي طريقة تقديم الذات: الشخصية. الصورة أو"الايميج". تتردد هذه الكلمة الأخيرة كثيراً في البيئة الاجتماعية لدبي المتقاطعة عبر عقد محبوكة ببيئة الأعمال. الشاب، في مقابلة العمل، ليس بوسعه الا أن يزوّر. ليس تزويراً يصل الى حد الجرم، ولكنه نوع من التجمّل، يزيد فرص إنجاح اللقاء وقبوله. الشاب بات مستعداً الآن للتنفس"بالأبيض". سوق يزوّر تاريخه. يخلق شخصيته من جديد. كل الآتين الى دبي، في لحظة ما، قرروا أن يشطبوا سطوراً من سيرهم الذاتية ويضيفوا أخرى. العمل التطوعي الذي قام به، ذات يوم، مع إحدى الجمعيات الأهلية التي تملأ شوارع القاهرة، بوسعه أن يسوّقه بطريقة تحتمل إثارة أكبر:"لماذا أقول عملاً تطوعياً خيرياً. من الأفضل استبدالها بخبرة"علاقات عامة"PR، لإبدال مفاهيم اجتماعية عالقة في بيئة اجتماعية معينة". وما الفرق؟"لا تتفق ثقافة العمل الحادة في دبي مع مفاهيم التطوع والخير وما الى ذلك. هناك تجارة. ربح وخسارة". حين تنفس الشاب بالأبيض، نال إعجاب موظّف المستوى الرابع. قال له:"جيد، ستفيدك خبرتك، بالتأكيد، فنحن نحتاج الى مسوّق بارع لزجاجات العصير، يبدل مفاهيم عالقة عند الناس متّصلة بشرب الحليب في الصباح. نبني مصنعاً في دبي، ونريد أن نغرق السوق بالعصير. ونريد أن نربط بين القدرة على الاستيقاظ وممارسة العيش صباحاً، وبين شرب العصير. منافسنا الاول سيكون الحليب". أبيض الحليب، مثل أنفاس الشاب والكذب. كان للصبية سرير في بيت يملأه ضجيج الأخوة والأخوات. في واحدة من قرى الجزائر النائية، عاشت وتربت. مشت حافية في الحقول ولملمت حبات القمح مع أمها. تبدو القصة مألوفة. حنا مينا؟"لا، هي قصتي أيضاً، لكني غير مضطرة لسردها على الناس في دبي". عملت بجهد، ووصلت، في فترة قصيرة الى تبوّء منصب استشاري مهم في احدى الشركات السياحية التي تجذب الألمان الى"سفاري"الصحارى المحيطة بالمدينة. لكن السياح يسألونها مرات، على سبيل التودد وتمضية الوقت، عن بلد المنشأ."كلنا مهاجرون، نأتي الى المدينة، ونقول ما نشاء. نشكل وجوهاً جديدة لتاريخنا، تخدمنا أكثر". حكاية"الايميج"مرة أخرى، والصبية التي صار لها كلب تنزهه في حديقة الصفا يوم العطل، تتنفس بالأبيض حين يسألها الناس عن حكايات طفولتها. هم أيضاً، الناس الذين يسألون، يخرجون أنفاساً بيضاً مع أسئلتهم:"أنا لا أكذب، لكني أتجمل". العنوان مألوف مرة أخرى؟ انه الفيلم التلفزيوني الوحيد لأحمد زكي. رحل النجم وبقي الفيلم. كذلك هي كذباتنا البيض. نرحل، لكن هل صحيح أنها تتبخر معنا؟