حين أتى الفنان ياسر صافي من سورية الى إمارة الشارقة، ومعه خبرته في تعليم مادة الحفرغرافور، ظن ان ذاكرة جديدة سيولّدها في داخله المكان الجديد، لتفرز حالات تشكيلية وخطوطاً وشخصيات من وحي المناخ والبيئة الجديدين. الا انه لم ينتبه أنه، حين المغادرة، أبى إلا أن يحمل معه، مع حقيبة السفر، ذاكرته وأبطال لوحاته القدامى. تختال شخصياته على جوانب اللوحة، وتتأقلم مع سقفها مرة ببراءة، ومرة بانزعاج، ومرة بتساؤلات تظهر في عيونها وأصابعها، فتتحرك بليونة الدمى بما يضمن بقاءها داخل اللوحة على حساب التشريح، وارتباك في وظائف الأعضاء والأطراف المعهودة. وقد تكون رغبة صافي في التحرر من المكان والقيود انتقلت لتكون شخصيات لوحاته. وهو يقول ان"هذه المساحة ملكه، وله ان يحرك عناصرها كما يشاء من دون حسابات او منطق". شخصيات ياسر صافي تحمل، في تعابير وجوهها، ملامح الدمى، من دون ان تكون بريئة مثلها تماماً. فتلك الوجوه ذاتها، التي لا تخلو من الطيبة والرقة، تحمل دائماً علامات استفهام وكأنها امام أزمة وجودية قد تكون مشكلة محاصرة السقف لها. وان كان صافي لا يخضعها للوعي وللمنطق السائدين في حياكة التفاصيل، وفي الحبكة الدرامية التي تجمع في ما بينها، إلا انه يستخدم تقنية عالية في الحفر - وهو الحائز ثلاث جوائز في الحفر على المعدن - لتشكيل سطح غني بالمعالجات الحسية والتعبيرية، مستعيناً بالتفاصيل"السكيتشية"وپ"الكروكية"التي يتركها على لوحاته. وهو بذلك يشارك المتلقي بعملية بناء اللوحة ما يجعلك امام لوحة متكاملة العناصر تأليفياً وتشكيلياً وبصرياً. في احدى لوحاته"رقم 1" اكريليك على قماش، تظهر معاناة الشخصية في محاولة التأقلم مع المساحة المتاحة، من دون ان يقف ضيق الحدود بينها وبين ممارسة تفاصيل الحياة اليومية كاللعب مثلاً. كأنها بذلك تبقي نفسها رهينة الواقع من دون حتى ان تفكر في محاولة ايجاد مخرج. او كأنها استسلمت لكون فلا حول لها ولا قوة سوى التعايش، والقبول بما هو موجود. لم يميز صافي كثيراً بين الشخصية والدمية في هذه اللوحة، إلا انه جعل فضاء الدمية أوسع ولون شعرها أكثر بروزاً بالأحمر، بينما الشخصية تتفاعل اكثر مع المكان، وتمارس وحدها بعض الوظائف الجسدية كالعناق والجلوس. ولوحات صافي لا تخلو من عنصري المفاجأة والطرافة، اللذين يخرجان العمل عن"نطاق الرتابة والايقاع الواحد". فتحضر فردة حذاءٍ من حيث لا ندري لتستقر في قلب اللوحة، او آلة"كمان"محمولة في شكل معكوس. ولن يكون مفاجئا بعد ذلك رؤية شخصيات برؤوس حيوانات مثلاً. الأعمال التشكيلية والحفرية لياسر صافي، تعرف المتلقي على فضاءات أوسع، على رغم ضيق مساحة اللوحة، والحصار الذي تعاني منه شخصيات هذه الأعمال. فهي تعيد طرح أسئلة خارج سياق"المقولب"لتعيد الدهشة الفاتنة والساحرة في كل تفصيل من اللوحة.