لم يثنه الظلام الذي في عينيه عن السفر لإكمال حلمه بالتعليم والحصول على شهادة تكون بمثابة النور لعينيه. قطع آلاف الكيلومترات من سورية إلى تونس منذ سبعة أعوام لتحقيق هدفه دراسة العلاج الطبيعي فجد وجاهد في هذا السبيل لإثبات قدراته لأهله الذين حاولوا ثنيه عن رأيه، لكن عزيمته أبت الرضوخ لكلمات أمه الحنون، ولهجة والده التي كانت على رغم صرامتها دافئة ومفعمة بالعطف والحنان. هيثم، لا كلمة معجزة تكفي لوصفه، ولا كلمة مناضل توفيه حقه لما واجهه في غربته وبُعده من أهله وبلده، مسيرة شاقة يتذكر انطلاقتها:"أتيت إلى تونس للدراسة منذ نحو سبعة أعوام، وفعلاً تسجّلت في مدرسة العلاج الطبيعي للمعوقين خاصة بالمكفوفين. وأتممت سنوات الدراسة الثلاث بتفوق على رغم صعوبة التأقلم مع الوضع الجديد". واجه هيثم مصاعب كثيرة منذ وصوله، كان عليه أن يعتاد على"تعقيدات"المواصلات، وكيفية الوصول إلى مكان دراسته والمستشفيات التي يتدرب فيها. تفاصيل تطلبت بذله مجهوداً كبيراً خصوصاً في السنة الأولى. أقام هيثم في"استوديو"صغير في منوبة مع صديقه محمد الذي يتابع اختصاص طب التخدير في المدرسة العليا للصحة،"كان السند لي والبوصلة والمرشد والمعلم والأخ. علّمني كيف أصل إلى مدرستي، فكنت أحصي المحطات التي يتوقف عندها المترو أو الباص إلى أن أصل إلى محطة باب سعدون، لأتابع بعدها طريقي سيراً على الأقدام بمساعدة أحدهم لعبور الشارع، كما أن محمد رتب المنزل في شكل يسهل علي التنقل فيه من دون الارتطام بالأغراض". ويوضح أحمد الخطيب، خريج المدرسة العليا للصحة في العلاج الطبيعي والذي عرف هيثم من طريق الصدفة خلال فترة التدريب في أحد المستشفيات وتدرجت العلاقة بينهما حتى قويت، انه كانت لديه تساؤلات عدة عنه: كيف يعيش؟ كيف يتدبر أموره؟ خصوصاً أنه يقطن وحده منذ أربع سنوات. ويقول:"كان هناك شيء يمنعني من سؤاله، ربما خشيتي من أن يقلق من ذلك، ترى لماذا لا يعود الى دياره بعدما أنهى دراسته، لكن الجواب جاء محيراً أكثر- الوضع هنا أحسن - صراحة لم أتفهم جوابه، فهل اعتاد على الغربة؟ ماذا بالنسبة الى عائلته؟ إلى متى هذا البُعد عنها؟". والحقيقة ان هيثم فضّل البقاء في تونس بسبب فرصة العمل التي حصل عليها في المستشفى، مع أنها لا تدرّ عليه المال الكافي لعيشه، حتى مع عمله الإضافي إذ يزور بعض المرضى في بيوتهم لمعالجتهم هناك، ويقول:"بعد إكمالي الدراسة افتتحت عيادة خاصة، لكنها محاولة باءت بالفشل، لم أعرف السبب، هل لأنني ضرير؟ مع أنني أعمل في المستشفى. فالمدخول قليل، كما أن عملي الإضافي لا يعود علي بمردود جيد. فأنا أعمل في مستشفى حكومي، والمرضى بالتالي غير مقتدرين، ومعظم زياراتي تكون شبه مجانية، لكن هذا يريحني، فهو أفضل من أن أبقى في البيت وأشعر بالملل". وعلى رغم اعاقته، يدأب هيثم على زيارة بعض الأصدقاء، أو حتى مجالستهم في المقهى. واعتاد ارتياد هذا المكان خصوصاً في شهر رمضان،"حيث تكون اللقمة على الإفطار جميلة، وتساعد على الابتعاد عن جو الوحدة والوحشة". كما أن تبادل أطراف الحديث بالنسبة الى هيثم يساعد على معرفة ما يدور في العالم، خصوصاً أنه لا يستطيع مطالعة الصحف أو مشاهدة التلفزيون، واعتماده على الأخبار من إذاعات المحلية ليس بالمصدر الجيد بالنسبة إليه. كما أن احاديث الشباب على حد قوله،"تفتح عيني على ما حولي، فأنا أحاول أن أكوّن صورة لكل شخص من حولي، وأن أعطي بعض الرموز في عقلي لكلمات ومفاهيم ومصطلحات يردّدها الشباب في جلساتنا". ودعا أحمد هيثم مرات عدة الى تناول الغداء، وسرّ بطبق الملوخية الذي لم يذق مثله منذ أعوام. وسأله مرة عن كيفية تحضيره وجبات طعامه، فجاءت إجابته محزنة ومفاجئة في آن"وحدي وأحياناً الجيران". استغراب أحمد كان دافعاً لتوجيهه سؤالاً آخر"كيف؟"فأوضح هيثم أنه اعتاد على وضع الأشياء كالملح والسكر والشاي حتى الكؤوس والملاعق والطناجر في أماكن كي يحفظها، وهذا يساعده على إعداد ما يريد وقت ما يشاء. أحمد الذي يبدي إعجابه بهيثم، يصفه بالمكافح الى أبعد الحدود، ويروي موقفاً حصل معه حين كان يوصل هيثم إلى محطة المترو كي يعود إلى منزله، اذ راح هيثم يلومه على عدم قيامه بفروض الصلاة ويحثه عليها، ويدفعه للابتعاد عن كل ما يخالف الدين. ويقول أحمد:"وقتها شعرت برغبة بالبكاء". انه هيثم الإنسان"الكفيف"الذي يجد طريقه في الظلمة وكأنه مبصر، بينما هناك مبصرون كثر ابتعدوا عن أهلهم وتغرّبوا وضاعوا.