لعبت فرنسا دورا محوريا طيلة شهر الحرب الصهيونية التدميرية على لبنان، لجهة القيام بكل واجباتها في"الأزمة اللبنانية"، وصياغة مسودة نص القرار 1701 وتعديله بالاتفاق مع واشنطن وإسرائيل ولبنان والترويكا العربية والدول المعنية الأخرى، والبحث عن حل ديبلوماسي للصراع بين إسرائيل وحزب الله. وقد توصلت باريس إلى قناعة مفادها أن لا إمكانية لحل عسكري ، فضغطت بكل ثقلها في الأيام الأخيرة للحصول على مساندة من الولاياتالمتحدة الأميركية لإيقاف العدوان الصهيوني، وعلى فرض رؤيتها، في القرار الأخير الموقع مع واشنطن، والذي صوت عليه مجلس الأمن بالإجماع، وعلى إقناع الحكومة اللبنانية بنشر الجيش اللبناني في الجنوب، الذي يسبق عملية انتشار القوة الدولية"اليونيفيل"، إذ يشكل هذا الانتشار المرحلة الأولى من تحقيق الأمن على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. ويرتكز هذا النشاط والتأثير الفرنسيان - علاوة على تغني فرنسا الدائم ب"العلاقة الخاصة والتاريخية"التي تربطها بلبنان - على التزام محدد: إذ تسهر باريس على أن تكون القوة الدولية صلبة وذات مصداقية. وإذا كان الهدف الأكثر حساسية، أي نزع سلاح حزب الله، يجب أن يحل في إطار الحوار الوطني بين مختلف الأطراف اللبنانية، فإن فرنسا تساند بيروت في البحث عن السيادة المستردة. ولم تتنازل واشنطن، إلا لأن فرنسا قبلت أن تلعب دورا كبيرا في القوات الدولية. ومنذ عدة أيام ، كانت الأوساط الديبلوماسية في الأممالمتحدة تعتبر المشاركة الفرنسية بجنودها بمنزلة الحق المكتسب، لكي تجعل من باريس القائد الطبيعي لهذه القوة الدولية الجديدة. بيد أن الإنزال الذي قام به الجيش الصهيوني في بوداي، والذي شكل انتهاكا لوقف الأعمال الحربية بين إسرائيل ولبنان، الوارد في القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، في أوج الاتصالات التي تجريها الأممالمتحدة لتوفير العناصر العسكرية اللازمة من أجل تشكيل قوة الطوارىء الدولية المعززة عن طريق ضم 13 ألف جندي إضافي للقوة الموجودة الحالية، هذا الإنزال جاء ليعزز المخاوف الفرنسية من نشر قواتها في الجنوب اللبناني، وليكشف هشاشة القرار الدولي ووقف النار. الرئيس شيراك ومعه فريق من العسكريين يطالبون ب"تحديد دقيق جدا للمهمات"التي ستناط باليونيفيل وتوفير الوسائل المادية والقانونية التي ستعطى لهذه القوة والتي ستمكنها من القيام بواجباتها، وأخيرا تحديد قواعد التصرف، أي متى يسمح للقوة باللجوء إلى استخدام السلاح ومتى تمنع منه وكيف يتعين عليها التصرف ميدانيا. وتعتبر مصادر الأممالمتحدة أن هذا التراجع في الالتزام الفرنسي"يهدد المسار كله". ولكن بصرف النظر عن إرادة باريس في مواصلة الإلتزام الديبلوماسي في لبنان المقرون بالالتزام العسكري، فإن هيئة الأركان الفرنسية لا تزال مصدومة بالتجربة المريرة للقوات الفرنسية في البوسنة والهرسك في إطار قوة الحماية للأمم المتحدة 1992-1995، إذ تكبدت فرنسا آنذاك خسائر كبيرة وعرفت إهانات من قبل جيش مشلول. وفضلا عن ذلك، يحفظ الفرنسيون ذكرى مرّة، جراء تلك العملية الانتحارية التي استهدفت مقر قواتهم العسكرية العاملة في إطار القوات المتعددة الجنسيات، والتي كانت تأخذ من بناية دراكار في بيروت مقرا لها، حيث ذهب ضحيتها 58 عسكريا في تشرين الأول أكتوبر 1983. ومعلوم أيضا أن تلك التفجيرات قد أودت بحياة 241 جنديا أميركيا من قوات المارينز العاملين في لبنان. وعزيت مسؤولية تينك العمليتين الانتحاريتين آنذاك إلى حزب الله، وكانتا السبب الرئيس وراء انسحاب القوات متعددة الجنسيات من لبنان في حينه. ومنذ ذلك التاريخ، تعتبر واشنطن أن"هناك ثأرا بينها وبين حزب الله". ومنذ ذلك الوقت يتخوف الجيش الفرنسي من العمل تحت علم الأممالمتحدة. وهويخشى أيضا أن يكون القرار 1701، الذي لم يوضع تحت البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة، مصدرا للمشاكل، لجهة احتمال تعرض العسكريين الفرنسيين"لضربات موجعة"سواء من حزب الله أو من الجيش الصهيوني. ويجمع المحللون الغربيون على أن هناك ثلاثة أسباب جوهرية تقف وراء التراجع الفرنسي، وتغذي مخاوف العسكريين الفرنسيين من استهدافهم من قبل جهات إقليمية. أولا: المبادرات الديبلوماسية لفرنسا، وإصطفاف الرئيس جاك شيراك على أرضية الخط السياسي الأميركي في مجلس الأمن، إذ لا تزال باريس تشدد الخناق على سورية، المستهدفة من قبل لجنة التحقيق حول مقتل رئيس الوزارء اللبناني السابق رفيق الحريري. ثانيا: استمرار فرنسا أيضا في ممارسة الضغط على إيران، المتهمة في عيون الغرب بالبحث عن امتلاك السلاح النووي. ثالثا: عدم رغبة الرئيس شيراك في التورط كثيرا في لبنان، مخافة أن يتعرض الجنود الفرنسيون لعمليات عسكرية انتقامية تستهدفهم من أي جهة ما لها خلافات مع فرنسا. وفضلا عن ذلك، فالرئيس الفرنسي يرفض أن يورطه الرئيس بوش في الوحل اللبناني، وهو على أبواب سنة انتخابية في فرنسا. * كاتب تونسي.