ما كاد العالم ينسى مهاترات صمويل هنتنغتون عن"صدام الحضارات"، ليعيد اكتشاف ديناميات السياسة والصراع في العالم بصفتها ديناميات سياسية مثلما كانت دائماً في التاريخ، حتى أعادتنا عبارات جورج بوش عن"الفاشية الإسلامية"الى نقطة الصفر! لقد وجدت الأصولية المسيحية الصهيونية نفسها من جديد في حاجة الى تأسيس السياسة على العقيدة من أجل إعادة انتاج تماسكها المنفرط، الذي مزّقته سياسات القوة الخرقاء في أفغانستانوالعراق! ينتمي تعيين العدو، في خطاب رأس المحافظين الجدد، بأنه"الفاشية الإسلامي"، الى نمط من التعيين الديني والأخلاقي أتت تعبّر عنه ثنائيات"سياسية"في ذلك الخطاب منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001:"الإرهاب"/ الحرية،"محور الشر"/"محور الخير"... الخ. وهو بقدر ما يُفصح عن حال من الانحطاط الفكري لدى النخبة السياسية الأميركية، في عهد المحافظين الجدد، ومن الأصولية المسيحية الرجعية التي ضخها نفوذ الجماعات الانجيلية والصهيونية في المجتمع الأميركي، بقدر ما يُدخل الى مجال السياسة عقيدة القوة العمياء بصفتها الطريقة الوحيدة لمخاطبة العالم وحماية التفوق الأميركي، ليُدخل معها منظومة قيم"دينية"ترفع فعل القتل والإبادة للعدو الى مرتبة القداسة والواجب الديني توكيداً لرفعة مقام شعب في الأرض على"مقامات"شعوب أخرى قد تكون أي شيء آخر، بعوضاً، عقارب...، إلا أن تكون شعوباًّ! ولقد أنتجت هذه الهلوسات الدينية فظاعات كبيرة في السنوات الأخيرة: حروباً ظالمة مات فيها مئات الآلاف من البشر وتشوّه فيها أضعاف أضعافهم، ودُمّرت فيها أوطان وتمّ محوها أو تمزيقها، وعنصرية كريهة تجاه قسم من العالم لمجرّد اختلافه الديني والثقافي وعدم تسليمه بأوحدية المعايير الثقافية والاجتماعية الغربية الأميركية على نحو خاص، واحتقاناً لا سابق له في الحدة في العلاقات الدولية بما في ذلك علاقات أميركا بحلفائها، وجموحاً مجنوناً الى إلقاء القبض على مصير العالم والانفراد بتقرير شؤونه! لم تقترح هذه النخبة الرجعية على الأميركيين وعلى البشر شيئاً يتذكرونها به غداً ما خلا الآلام والألم دائماً ما يقاومه الإنسان بميكانيزم سيكولوجي دفاعي هو النسيان كما تثبت ذلك نظرية التحليل النفسي. اقترحت عليهم الحرب وأوغلت فيها، وفي عهدها خاضت أميركا في سنوات ثلاث مجموع ما خاضته من حروب منذ الحرب الكورية قبل نيفٍ ونصف قرن. وفي عهدها بلغت درجات الكراهية لأميركا في العالم ما لم تبلغه في تاريخها كله. وفي عهدها انقلبت مفاهيم أميركا ومعاييرها: باتت الحرية مقترنة بالحرب، وباتت الديموقراطية نظاماً محمولاً على دبابات الغزو والاحتلال وليس خارجاً من صناديق الاقتراع. وما خفيَ أعظم! لم يشهد التاريخ المعاصر نخبة أيديولوجية عقائدية حاكمة بعيدة في صفائها العقائدي مثل هذه النخبة الحاكمة في أميركا منذ ست سنوات. النخب الشيوعية في الاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية دونها عقائدية بكل تأكيد، على الأقل لأن أحداً في العالم الشيوعي لم يدّع يوماً أنه يحكم باسم الله أو أن الله يخاطبه ويكلّفه بأداء رسائل في الأرض. نظام طالبان وحده يشبه النظام الأميركي اليوم في درجة الإفراط في انغلاقه العقائدي مع فارق ذي دلالة: أن ثورة العلوم والتكنولوجيا الهائلة لم تحرر عقل النخبة الأميركية من الخرافة. حين يتحدث جورج بوش عن"فاشية إسلامية"يؤكد انه لم يستفد بعد من دروس الإخفاق الذي قاد اليه أميركا منذ حربه على أفغانستان. استعملت أميركا كل ما لديها من قوة في أفغانستانوالعراق. راهنت على أن ذلك سبيلها الوحيد لقهر أعدائها وفرض هيبتها ودفعهم - ومن يشاكلونهم - الى الامتثال والخضوع لمشيئتها. وبعد خمس سنوات، ها هي القوة العمياء تائهة في شعاب أفغانستان، وها هي بعد ثلاث سنوات ونصف من احتلال العراق غارقة في مستنقع لا تملك الخروج منه كما ملكت الانجرار اليه. ثمة سؤال يسأله كثيرون في أميركا وخارجها: هل أصبح العالم أكثر أمناً مما كان قبل الحربين اللتين شُنتا على أفغانستانوالعراق بدعوى الرد الاستراتيجي العقابي على القوى التي أنتجت أحداث 11 أيلول 2001؟ الجواب العام بالنفي. ومع ذلك، تُمعن إدارة بوش في الخيارات نفسها التي تغرّم أميركا من أمنها ومن صورتها: مزيداً من القوة تقابله قوة مضادة تستدعي رداً عنيفاً في دورة لا تنتهي كمن يلعق دمه المسفوك على حد سكين صقيل! جورج بوش من المدرسة ذاتها التي تخرّج منها مناحيم بيغن: علّق بيغن مرة بأنه إذا لم تكن القوة حلاً فإن الحل هو مزيد من القوة! هكذا يفعل بوش، ولعله سيظل يفعل ذلك الى أن يرحل عن سدة الرئاسة. ثمة مغرمون كثر بسياسات بوش، يرون فيه الرجل الذي أفنى ولايتيه الرئاسيتين في محاربة الإرهاب. آخرون أكثر عدداً - وبالقطع أكثر حجة - يذهبون الى أن سياسات بوش هي بالذات من يصنع الإرهاب ويفرّخ شبكاته في كل أنحاء العالم. أكبر هدية اليوم للتطرف السياسي في العالم اسمها سياسات الإدارة الأميركية ضد الإرهاب: إنها تزوّد قوى التطرف بالوازع السياسي لنشر معاركهم في كل مكان، وهي تفعل ذلك أكثر كلما أمعنت في تأسيس حروبها على الإرهاب بمفردات دينية على مثال عبارة"الفاشية الإسلامية"! مع ذلك، يستغرب رجال البيت الأبيض والصحافة والإعلام ومراكز البحوث والدراسات لماذا تتزايد مشاعر الكراهية لأميركا في العالمين العربي والإسلامي! ثمة تحريف في السؤال مرتين: مرة لأن الكراهية ليست لأميركا والأميركيين بإطلاق وإنها للسياسة الأميركية المنحازة ضد العرب والمسلمين، ومرة ثانية لأن مشاعر الكراهية هذه ليست عربية - إسلامية حصراً، بل عالمية أيضاً وقد وصلت الى جنوب القارة الأميركية نفسها. ولقد كان يمكن لمن يطرح هذا السؤال أن يتساءل أيضاً، لماذا لا توجه هناك مشاعر كراهية ضد ألمانيا أو فرنسا أو اليابان أو الصين مثلاً؟ ليجد الجواب والحجة على نفسه. في الذكرى السنوية الخامسة لأحداث 11 أيلول، على أميركا أن تدرك أنها لا تفعل بحروبها سوى تغذية التطرف الديني والسياسي في مجتمعاتنا والعالم، وأن ما يصيبنا منه من مآسٍ هو أضعاف أضعاف ما يصيبها منه، وأن مأساة مجتمعاتنا مزدوجة: مع الإدارة الأميركية ومع من تُحاربهم. فلتتوقف حربهم...