تقيس الحكومة في بيروت العلاقة مع سورية بوقف تهريب الاسلحة والمساهمة بنزع السلاح خارج المخيمات الفلسطينية في لبنان وضبطه داخلها، وبترسيم الحدود وإقامة علاقات ديبلوماسية. وتقيس الحكومة في دمشق هذه العلاقة بدعم المعركة مع اسرائيل، والوقوف العلني الذي لا لبس فيه الى جانب سورية. القياس الاول يعني ان الحكومة اللبنانية ترغب في ان تكون في موقع المسيطرة على عناصر المواجهة مع اسرائيل. ذلك ان فوضى السلاح وإبقاء الغموض في قضية الحدود وقنوات الاتصال، ينزع من يدي الحكومة اللبنانية القدرة على التحكم في اي من هذه العناصر. القياس الثاني يعني ان تتغاضى طوعا الحكومة اللبنانية عن قوى، غالبيتها مسلحة، منتشرة في لبنان، وإبقاء التوتر الامني والسياسي على الوتيرة التي تراها دمشق انها تخدم المواجهة مع اسرائيل. ويمكن استنتاج هذا الوضع من مجمل الجدل المندلع في لبنان، حتى لو بدا ان ثمة تعاونا سوريا مع متطلبات القرار الدولي الرقم 1701، الذي ينص على توقعات الحكومة اللبنانية من العلاقة الطبيعية مع دمشق. يذهب هذا الجدل في إتجاه وضع اسرائيل وحلفائها الدوليين كعرابين للوضع الحكومي اللبناني، او على الاقل لبعض قواه. وتنهال التهم بتلقي الاوامر من الخارج الحليف لاسرائيل وخدمة المصلحة الاسرائيلية على هذه القوى. في محاولة لنزع اي شرعية وطنية عن هذه القوى واستمرار قيادتها للحكومة. من الواضح، ان دمشق ليس راغبة حاليا بمعاندة صريحة لمتطلبات القرار 1701. فتتعامل معه بالانحاء امام عاصفته، تاركة جملة من الالتباسات في سلوكها ازاءه. وبعد تأكيدات، آخرها من رئيس الحكومة الايطالي رومانو برودي والامين العام للامم المتحدة كوفي انان لالتزامات سورية، يأتي النفي من دمشق لهذه الالتزامات. وتترك دمشق لحلفائها اللبنانيين تولي مهمة نسف متطلبات القرار لابقاء لبنان في خدمة المواجهة. فتعلو الاصوات اللبنانية المنددة بالحكومة وادارتها للازمة الحالية الى التنديد بالاحتلال الدولي للبنان والوصاية الدولية عليه. اي زرع بذور مواجهة مع القوات الدولية المعززة في الجنوب "يونيفيل" بصفتها حارسة لاسرائيل ومانعة للمواجهة معها. ولا تغيب عن هذا السيناريو تجربة القوات المتعددة الجنسيات بعد الاحتلال الاسرائيلي لبيروت العام 1982، والتي منها بدأ تشكيل"حزب الله"وفتح المواجهة الواسعة مع الدولة اليهودية... وصولا الى العدوان الاخير. لكن الظروف الاقليمية والدولية التي ساعدت في نجاح المعركة ضد القوات المتعددة الجنسيات التي جاءت لتحمي جلاء مسلحي منظمة التحرير من بيروت، تغيرت على نحو لم يعد"حزب الله"، رغم خروجه منتصرا في المواجهة الاخيرة وتأكيده ان قوته لم تتأثر وخسائره البشرية والتسليحية محدودة، من فرض رؤيته على الحكومة. لكن ذلك لا يعني وقف العمل لتغيير المعادلة. لا بل يتوقع ان تزداد الحملة، باسم المواجهة التي لم تعد موجودة والتي جاء الانتشار الدولي ليقفل جبهتها. في هذا المعنى انتقلت المواجهة من الحدود الى الداخل. ونتيجة هذا الانتقال تتصاعد الاتهامات ويتصاعد التوتر بين الاكثرية المؤتلفة في"قوى 14 آذار"من جهة وبين"حزب الله"والقوى الحليفة لسورية من جهة ثانية. ولذلك ترتدي معركة بقاء الحكومة مثل هذه الحدة. اذ على مصيرها يتوقف الوضع اللبناني في المستقبل. وايضا عليها تتمحور الاستقطابات الدولية والعربية، كتعبير عن الانقسامات المتعلقة بالمواقف من سورية وايران. والجديد في هذا الوضع الذي يحاول تكرار تجربة ما بعد الغزو الاسرائيلي العام 1982، ان الالتزام الاوروبي عبر"يونيفيل" والالتزام العربي يذهبان في اتجاه دعم الحكومة اللبنانية الحالية، بما يحرم سورية تجديد وكالتها التي حصلت عليها في اتفاق الطائف لابقاء المواجهة مع اسرائيل مستمرة.