منذ نشوئها، في منتصف الستينات من القرن الماضي، توسلت الحركة الوطنية اسلوب الكفاح المسلح، سبيلاً لتحرير فلسطين، ما أدى الى"عسكرة"هذه الحركة، من حيث بنيتها وعلاقاتها الداخلية وشعاراتها السياسية، من دون ان يكون لذلك علاقة بتحقيقها الانجازات، بسبب اعتماد هذا الخيار. اللافت ان حركة"فتح"التي بادرت الى هذا الاسلوب، لم تكن تعول على الكفاح المسلح الفلسطيني، بحد ذاته، لتحقيق غاية التحرير، بقدر ما كانت تتوخى منه تحريك الجبهات العربية وفق مفهوم"التوريط"الواعي، لإبراز القضية الفلسطينية، وتحريك الصراع العربي - الاسرائيلي. ويبدو ان قيادات هذه الحركة حينها كانت أكثر إدراكاً لمحدودية دور الكفاح المسلح الفلسطيني، وأكثر واقعية في نظرتها للمعطيات السائدة، كونها لم تكن بعد ان اصيبت بلوثة المنافسات والمزايدات الفصائلية. واللافت ايضاً ان الأدبيات الفلسطينية، التي نظرت للكفاح المسلح، في بداية انطلاقته، كانت رأت فيه وسيلة من الوسائل الاساسية للتحرير، وفيما بعد، وفي زمن المنافسة والمزايدة الفصائلية، بات الكفاح المسلح الوسيلة الأساسية أو الطريق الوحيد للتحرير، وجرى تقديسه، وجعله قيمة عليا، وحقاً من حقوق الشعب الفلسطيني، لكأنه بات غاية في ذاته. لكن على رغم المبالغة في الحديث عن الكفاح المسلح، وطغيان هذا الشكل على وظائف وأنشطة الحركة الفلسطينية السياسية والثقافية والاجتماعية، وعلى بنيتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، في واقع من شيوع الفوضى والمزاجية والشطط في إدارة الفلسطينيين لكفاحهم ضد اسرائيل، فإن المثير للانتباه ان هذه الحركة لم تجتهد الى الدرجة الملائمة في انتاج نظريتها الخاصة بالكفاح المسلح، أو بمشروع الحرب الشعبية طويلة الأمد على حد قول بعض الأدبيات، على غرار تجارب أخرى صينية وفيتنامية وكوبية وأوروبية في حقبة الحرب الثانية. على ذلك، فقد تميزت التجربة العسكرية الفلسطينية، بالعفوية والمزاجية والفوضى، وهي السمات نفسها التي ميزت مجمل التجربة الفلسطينية المعاصرة، في ظل غياب ادارة عقلانية، أو استراتيجية سياسية واضحة. ومثلاً، فقد انتقل الكفاح المسلح، من تجربة قواعد الارتكاز أو قواعد الفدائيين في الأردن، الى تجربة القواعد العسكرية الثابتة في جنوبلبنان، وصولاً الى تجربة المقاومة المسلحة والعمليات التفجيرية والقصف الصاروخي، في مواجهات الأعوام الماضية 2001 - 2005 وحتى الآن. ويمكن ان نضيف الى ذلك تجربة خلايا المقاومة في الداخل، في السبعينات والثمانينات، وهي تجربة عملت عليها"فتح"، في ما سمي"القطاع الغربي"الذي قاده كل من كمال عدوان وأبي جهاد، عضوا اللجنة المركزية لفتح، وقد استشهدا في عمليتي اغتيال اسرائيليتين. المؤسف ان كل هذه التجارب والتحولات، على أهميتها وتداعياتها الخطيرة، لم تنتج وعياً نقدياً لها، ولم يجر تفحص جدواها أو تأثيراتها، كما لم تنتج فكراً عسكرياً أو نظرية استراتيجية عسكرية، خاصة بالمقاومة الفلسطينية، بسبب ضعف الاهتمام بحقول كهذه، وبسبب الحط من أهمية العمل التنظيري أو الفكري في الساحة الفلسطينية، لصالح الروح العملية والنزعة الشعاراتية، وأيضاً بسبب تفشي عقلية الوصاية الفصائلية والتعويل على المشاعر الشعبوية التي تنظر الى التضحية والشهادة باعتبارهما قيمة عليا، بغض النظر عن الانجازات المتحققة. ومن تفحص مجمل التجارب العسكرية السابقة يتضح كم أنها كانت عفوية ومرتجلة، وغير مرتبطة بأفق سياسي ما، وكم انها أدت الى تداعيات خطيرة على الفلسطينيين، وعلى حركتهم الوطنية، وعلى عموم المنطقة، من دون أن تحدث تأثيرات جدية في تهديد أمن اسرائيل أو في تحقيق انجازات وطنية ملموسة. ويمكن أن نشير بهذا الصدد الى احصائية اسرائيلية تفيد بأنه في مواجهات السنوات 2001-2005 قتل حوالي الف من الإسرائيليين، وأن هذا العدد اكثر من عدد القتلى الذين تكبدتهم اسرائيل منذ قيامها في العام 1948 وحتى العام 2000، ومعنى ذلك أن عمليات المقاومة المسلحة اتي انطلقت من العام 1965 وحتى العام 2000 35 عاماً لم تستطع تكبيد إسرائيل خسائر تتوازى مع كل التوظيف العسكري. والضجيج الإعلامي والتحشيد العاطفي الذي ساد في تلك الفترة! ناهيك عن أن التجربة في الأردن انعكست سلباً على الحركة الفلسطينية، وعلى الشعبين الأردنيوالفلسطيني، وعلاقة النظام الأردني بالقيادة الفلسطينية. وفي لبنان كانت التداعيات أكثر هولاً، إذ اندلعت الحرب الأهلية الطوائفية، حيث اقحم الفلسطينيون فيها، بعد أن كانوا أحد اسبابها، ما كان له تداعيات سلبية وخطيرة على اللاجئين في لبنان وعلى الحركة الوطنية الفلسطينية وعلى علاقة قطاعات واسعة من اللبنانيين بقضية فلسطين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، وبعد كل ذلك، هو كم من عشرات آلاف الشهداء، خصوصاً من الفلسطينيينواللبنانيين، ذهبوا ضحية هذه التجارب؟! وبالنسبة الى التجربة العسكرية في الأرض المحتلة، فقد شكلت عمليات التفجير والقصف الصاروخي الموجهة ضد المدن الإسرائيلية، خروجاً عن نسق الانتفاضة الافتراضي، من الناحيتين الجغرافية والبشرية، كونها حالة فعل للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، ما حمّل هذه الانتفاضة أو هذا المجتمع فوق طاقتهما وأوجد انفصاماً بين جغرافية الانتفاضة البشرية والجغرافية وبين جغرافيتها أو أهدافها السياسية المتمثلة بدحر الاحتلال من الضفة والقطاع في هذه المرحلة وهذه الظروف. وقد أدت هذه العمليات الى توحيد المجتمع الإسرائيلي بدلاً من تعزيز الشروخات داخله وشوشت على عدالة قضية فلسطين أمام الرأي العام العالمي، كما غطت قيام اسرائيل بالتملص من عملية التسوية وسهّلت استخدامها أعتى آلتها الحربية للبطش بالفلسطينيين، فضلاً عن أنها اضعفت شرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال في الضفة والقطاع. طبعاً نحن لا نجادل في شرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، فهي عمل مشروع، كما لا نتناول مسألة الغلبة في ميزان القوى، فلطالما كانت الشعوب المستعمَرة اضعف في مواجهة المستعمِر. ولكن الحديث يدور عن ضرورة اخضاع كل أشكال النضال الملائمة لكل مرحلة، وتحديد وسائل المقاومة المسلحة وزمانها ومكانها ونوعية هدفها، واحتساب جدواها والتداعيات الناجمة عنها. يبقى من التجارب الفلسطينية اثنتان، ليست لهما علاقة بتجربة الكفاح المسلح، ولا بتجربة الخارج، أولاهما، الانتفاضة الشعبية في الأراضي المحتلة 1987-1993 التي انتهجت على الأغلب أساليب العصيان المدني والاشتباكات بالحجارة وبالوسائل البدائية مع ممارسة محسوبة في الضفة والقطاع. وثانيتهما، تجربة فلسطينيي مناطق 1948، التي اعتمدت الوسائل السياسية والسلمية للبقاء في الأرض وصد محاولات التهويد وتنمية الهوية الوطنية والانتماء العروبي مع الكفاح من أجل المساواة والسلام، وهي تجربة خاصة بظروف هذا الجزء من الشعب الفلسطيني. على ذلك، فإن تجربة الانتفاضة الشعبية 1987-1993 من بين كل التجارب الفلسطينية، كانت الأجدى في مواجهة الاحتلال، فهي التي جلبت الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحركته الوطنية، وعززت التعاطف الدولي معه، وهي التي خلقت الشروخ في المجتمع الإسرائيلي ونمّت مداركه بشأن عدم جدوى الاحتلال والاستيطان، وهي التي أجبرت إسرائيل على مراجعة اساطير الصهيونية التقليدية المتعلقة بفكرة إسرائيل الكبرى أو تغييب الشعب الفلسطيني. الغريب أن يتم تجاهل هذه التجربة الكفاحية الابداعية التي طالما جرى التغني والافتخار بها، بدل أن يجري العمل على اغنائها وتكريسها باعتبارها الشكل الأكثر نجاعة لاظهار إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية متغطرسة، وباعتبارها الأكثر تناسباً مع إمكانات الفلسطينيين والمعطيات المحيطة بهم. * كاتب فلسطيني