القاهرة قبل نجيب محفوظ ستكون قاهرة أخرى بعد رحيله. عندما سنجيء إليها بعد الآن لن نسأل عنه كما من قبل ، ولن نسترق إليه نظرة في مجلسه، بين فندق وناد أو نصيخ إليه السمع متحدثاً بصوت أجش. لكن طيف صاحب"القاهرة الجديدة"لن يغادر القاهرة القديمة، هذه المدينة التي عاش فيها وعاش لها وپ"كتبها"في رواياته مفرداً صفحات هائلة لناسها وأهلها والشخصيات الأليفة والغريبة وللأحداث والوقائع التي لا تحصى. لو قدّر لنجيب محفوظ ان يلقي نظرة وداع اخيرة وهو مرفوع على الأكف لفعل بلا تردد. لكنه كان يشعر سراً بأنه يطوف الأماكن التي طالما أحبها. روحه عانقت حتماً تلك الحارات والأزقة والمقاهي وجامع الحسين وحي الجمالية الذي نشأ فيه. عندما سنزور القاهرة سنفتقد اخبار نجيب محفوظ التي كثيراً ما شغلت اوساط الأدباء والمثقفين وأهل الإعلام. والمعارك التي أشعلها ستخفت قليلاً بعد غيابه، وقد تُحدثها بضعة كتب طالما أثارت السجال لا سيما روايته"أولاد حارتنا"التي ستكون بعد رحيله مهبّ نقاش لن ينتهي. ستتغير القاهرة، هذه المدينة الرهيبة، بعد غياب محفوظ. والزائرون سيتذكرون بعد الآن ان صاحب"الثلاثية"جلس هنا وأكل هناك واستقبل"الحرافيش"هنالك. وسيتذكرون انه عمل في"الأهرام"وسهر في"العوامة"في النيل... كل الأماكن كانت لنجيب محفوظ ولم يبق له الان إلا مكان ضئيل، يرقد فيه رقاده الأبدي. لكن رواياته هي عالمه الحقيقي، الذي بنى فيه"قاهرته"كما يحسن له ان يراها، وفيه أبدع شخصياته الكثيرة، ليعيش بينها وكأنه واحد منها. ترى لو قدّر لمحفوظ ان يحصي"ابناء"عالمه هل كان ليتمكن من إحصائهم؟ أبطال نجيب محفوظ التائهون في القاهرة ودّعوا امس كاتبهم. إنهم كانوا هنا في الجنازة، ابصرهم الجميع ولم يبصرهم أحد. بعضهم كان يود معاتبة الكاتب لأمور شتى، وبعضهم كان يريد ان يسأله بضعة أسئلة... لكن الموت فاجأهم، مع ان محفوظ كان في الأيام الأخيرة على حافة الموت.... حتماً كان هناك كمال عبدالجواد قرين محفوظ نفسه في"الثلاثية"وكان ايضاً سعيد مهران الذي فر من رواية"اللص والكلاب"وعيسى الدباغ بطل"السمان والخريف"و... أبطال كثر واشخاص ثانويون وهامشيون يسكنون عالمه الوسيع. كانت جنازة نجيب محفوظ حزينة كما صوّرتها الفضائيات العربية. كان الجميع هناك وكان هو الغائب الوحيد. صلوا عليه واحتفوا به فيما هو غارق في صمته الأبدي. يصعب فعلاً توديع نجيب محفوظ على رغم عيشه الموت مفتوح العينين. هذا رجل لم يعرف الشيخوخة ولو خانه جسده وقلبه وعيناه ويداه...