تعيش الصحافة المصرية منذ أيام، ومثلها الصحافة العربية، هاجس نجيب محفوظ: مات صاحب"الثلاثية"... لم يمت... وعندما راجت إشاعة موته أخيراً"عاجلت"احدى الصحف المصرية في إصدار ملحق خاص به، لكنه كان هزيلاً وهزيلاً جداً، وكأن غايته الوحيدة تحقيق سبق صحافي غداة رحيل الكاتب الكبير. لكن محفوظ لم يمت"نكاية"بهذه الصحيفة وبالصحافة العربية التي باتت تنتظر وفاته بفارغ الصبر، وبالصحافيين الذين يقصدون كل يوم مستشفى"الشرطة"ليس ليطمئنوا الى صحته وإنما ليتسقطوا خبر موته من طبيبه... نجيب محفوظ يقاوم الموت من أجل المزيد من الحياة، والصحافة تجهز نفسها لاعلان وفاته ورثائه"متمنية"حدوث هذه الوفاة لتنجز"الخبطة"الاعلامية. ما أبشع الصحافة حين تصبح وسيلة للنعي، وحين تفضل موت الكبار على حياتهم. هذا عمل يذكر بمهنة حفاري القبور. عمل يحبّذ الموت على الحياة حتى وإن كان الشخص كاتباً في حجم نجيب محفوظ. أليست الأوقات التي يحياها الكاتب الكبير مخامراً خلالها الموت هي أوقاته الخاصة جداً؟ وحياته التي تتدلى على حافة الرحيل أليست حياته الخاصة ايضاً؟ فلمَ لا ندعه - نحن الصحافيين - يعيش لحظاته الاخيرة كما يحلو له، ويموت موته كما يحلو له أيضاً؟ أليست لحظات الموت البطيء هي الاكثر انعزالاً في حياة الانسان نفسه؟ فتح نجيب محفوظ عينيه قبل أيام مستيقظاً من غيبوبته، وطلب من الأطباء ان ينقلوه الى البيت. كأنه يريد ان يودع العالم وهو ممدد على سريره ومن نافذته وبين كتبه. هذه الرغبة التي لم تتحقق، تكفي لأن تكون مثاراً لمقالات كثيرة؟ انه حب البيت الذي ما برح يعتمل في قلب محفوظ وكأن مغادرته - ولو قسراً - هي الموت نفسه. ولا غرابة في مثل هذه اللحظات أن يدب الحنين في قلب محفوظ الى البيت. هذا حنين يذكّر ببعض المواقف الوجودية التي عاشها شعراء كثيرون وفي مقدمهم الألماني هلدرلن. يروي الذين زاروا نجيب محفوظ في بعض صحواته، ومنهم الروائي يوسف القعيد، انه متشبث بالحياة الى آخر رمق. وقد يكون تشبثه بالحياة تشبثاً بما تمثل الحياة من تحد ومغامرة. فهذا التسعيني الذي عاش الحياة كما يجب ان تعاش، لن تضيف اليه بضعة أسابيع أو أشهر خبرة جديدة بالحياة بل هو يتمسك بها غريزياً لأنه يعرف معناها. وقد يكون محفوظ الآن، لا سيما في غيبوبته، على شفا حال هي الحياة والموت مختلطين معاً، لكن تمسكه بالحياة هو الذي يمنحه الامل كل مرة فيصحو ويفتح عينيه وينظر... ليت الصحافة تهجس بحياة نجيب محفوظ لا بموته. فهذا الكاتب عاش المجد وعيناه مفتوحتان. لكن مجده ظل محفوفاً بالقلق والشك. لعله قدر الكتّاب الكبار دوماً. وما كُتب عن صاحب"الحرافيش"لا يحصى ولا يعد، وفي لغات الارض كلها. وجائزة"نوبل"كانت نافذته الى الأدب الحديث في العالم وقد رسخت خلوده الذي لم يكن يحتاج اليها اصلاً. فأعماله الروائية والقصصية اصبحت كالخبز الذي لا تقوم حياة من دونه. وأبطاله الرئيسيون والثانويون يعيشون في عالمنا وبيننا، وهكذا سيظلون. أعذرنا أيها العم نجيب، نحن الصحافيين الفضوليين الذين تشغلهم لحظة رحيلك. وما سنكتبه عنك، رثاء ومديحاً، لن يضيف جديداً الى ما كتب عنك من أبحاث ودراسات ومقالات بالعربية وباللغات الاجنبية. عش بهدوء"نكاية"بالصحافة وبالأقلام التي شرعت في رثائك قبل وفاتك. عش أحلامك التي كتبتها في الأيام الاخيرة وأحلم كثيراً عساك تصبح حلم نفسك. اننا ننتظر نهوضك ولو بقليل من الرجاء"نكاية"بأقلامنا، فقط.