لم تكن ظاهرة انتشار الجمعيات الأدبية في فلسطين مقصورة على فترة الانتداب البريطاني، بل سبقت هذه المرحلة، حيث تشير الدراسات الى بروز ظاهرة توسع الجمعيات الأدبية في فلسطين في فترة الحكم العثماني لفلسطين، وعلى سبيل المثال لا الحصر كان في مدينة عكا الساحلية الجمعية الأدبية الخيرية، وجمعية مار منصور، إضافة الى شعبة المعارف، وكانت تقوم تلك الجمعيات خلال فترة الحكم العثماني بجمع الأموال وانفاقها على نشر وتعميم المعرفة والثقافة، فضلاً عن الصرف في مشاريع خيرية في مدن فلسطينية مختلفة. وعرفت فلسطين خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر نشاطاً خاصاً للجمعية الألمانية الفلسطينية، حيث اهتمت بنشر البحوث ذات الصلة بالشؤون الفلسطينية، وفي عام 1882 تم إنشاء الجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية التي كانت لها مدارس، كما تأسست جمعية ترقي الآداب الوطنية في يافا في سنة 1908، وكان من أهدافها تربية الشبيبة وتهذيبها، وكانت الجمعية تصدر في نهاية كل عام نشرة في خلاصة عن أعمال الجمعية خلاله. ومن الأهمية الإشارة أيضاً أنه تمَّ نشأة الدوواين والمجالس العائلية التي تشبه الجمعيات الأدبية وتقوم بدورها، ومن أمثلة هذه المجالس، المجلس الذي كان ينتظم في دار عثمان بن سليمان النشاشيبي والد الأديب الفلسطيني المعروف محمد اسعاف النشاشيبي، كما كان في القدس مجلس عبدالسلام الحسيني، وفي غالب الأحيان كانت تتم في مثل المجالس المذكورة وغيرها عملية تذاكر الشعر والأدب، وبذلك كانت تقوم المجالس في فلسطين بدور الجمعيات الأدبية في نشر الثقافة والوعي المعرفي المجتمعي، ويشار الى أن بعض الأدباء مثل خليل السكاكيني وإسحاق موسى الحسيني وعادل جبر وغيرهم كانوا يتواصلون مع هذا النوع من المجالس. وعرفت فلسطين أيضاً نشوء الجمعيات الأدبية المنظمة ذات النشاط المرموق في غالبية مدنها وبعض قراها، فكانت في القدس مثلاً جمعية الآداب الزاهرة حيث قامت بممارسة نشاطها الأدبي منذ سنة 1898 وكان رئيسها داود الصيداوي، وأعضاؤها عيسى العيسى، وفرج فرج الله، وأفتيم مشبك، وشبلي الجمل، وجميل الخالدي، ونخلي ترزي، هذا إضافة الى الأديب خليل السكاكيني الذي سعى بدوره في اجتماع عقد في سنة 1908 في منزل شفيق الخالدي الى تأسيس فرع جمعية الإخاء العربي، واعتبر سليم سركيس لقاء الأدباء تحت ظل الجمعية بمثابة جامعة للآباء، ولم تقف النشاطات عند هذا الحد في مدينة القدس بل كان النادي العربي يقيم المسابقات الأدبية ويسميها سوق عكاظ سنة 1920، وتتم في الملتقى المذكور عمليات توزيع جوائز على الفائزين في ميدان الشعر. ومن أجل التعاون مع المؤسسات الثقافية العربية تأسست لجنة الثقافة العربية في القدس، وقد قامت بتنظيم سلسة محاضرات، وتم تعيين اسحق موسى الحسيني سكرتير اللجنة المذكورة، وكان من أهم الفعاليات التي قامت بها اللجنة إقامة معرض الكتاب الأول في مدينة القدس خلال الفترة من 11-20/10/1946، وأثمر كتاباً بأسماء الكتب الفلسطينية التي أمكن جمعها في ذلك المعرض، حيث تم طبعه بمطبعة اللواء في القدس. وكان لجمعية الشبان المسيحية في القدس نشاط ثقافي واجتماعي ورياضي. وفي مدينة حيفا الساحلية وعلى أثر الاحتلال البريطاني لفلسطين، تمَّ تأسيس جمعيتين هما: الجمعية الإسلامية ورئيسها مفتي حيفا الشيخ محمد مراد، والجمعية المسيحية ورئيسها الوجيه فؤاد سعد، وكان لهاتين الجمعيتين الفضل في عقد أول مؤتمر فلسطيني رسمي عام مثَّل جميع طبقات الشعب من جميع جهات فلسطين، وأقرت الحكومة أنه لسان حال الشعب عموماً، وعقد المؤتمر المذكور في حيفا من 13-19/12/1920، وكانت في حيفا ايضاً جمعية الشبيبة المسيحية تقوم بالتمثيل المسرحي وتبحث في الأمور الأدبية، وكان يرأسها الشاب أديب الجدع، ولم تكن النساء بعيدات من النشاطات الثقافية في فلسطين، حيث كان في مدينة حيفا جمعيتان نسويتان: الأولى هي جمعية السيدات وهي مسيحية، والثانية جمعية تهذيب الفتاة وهي إسلامية. وفي الاتجاه نفسه قامت ثلة من الأدباء والمفكرين والصحافيين في تأسيس جمعية النهضة الاقتصادية العربية في حيفا، وكانت غايتها النهوض في البلاد علمياً وتهذيبياً واقتصادياً وأخلاقياً، وكان من المنادين بتأسيسها نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل، وبدأت الجمعية بنشر نقابات لكل مهنة وصنعة وفن، وكان من أهم هذه النقابات حلقة الأدب وغايتها تعزيز اللغة العربية وتشجيع فن الخطابة والعناية بالتعليم ونشر الكتب الأدبية، وشهدت مدينة حيفا أيضاً نشأة نواد كالنادي المختلط، والنادي العربي، ونادي موظفي سكك الحديد والنادي الكاثوليكي، أما في مدينة يافا فقد انتشرت جمعيات ونوادٍ، ومنها: الجمعية الإسلامية المسيحية والنادي القومي اللذان كانا دائبي النشاط في المناسبات الأدبية، كما انشأ محمد أديب العامري نادي الطلبة في يافا كفرع لمؤتمر الطلبة المنعقد في بيروت في عام 1925، وكان هذا النادي يقوم بحركة اجتماعية أدبية سياسية، ولم تقتصر عملية نشأة الجمعيات والنوادي الثقافية على مدن القدي وحيفا ويافا، بل شهدت مدينة غزة نشاطاً في هذا الاتجاه، وكذلك مدينة الناصرة في الشمال الفلسطيني. مما تقدم يتضح أنه كان لنشأة وتوسع ظاهرة الجمعيات والأندية الثقافية في المدن والقرى الفلسطينية قبل نكبة عام 1948 دور نهضوي في كل المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي يعزز فكرة أن الشعب الفلسطيني كان يمر بمرحلة تطور مجتمعي معينة قبل انتزاع أرضه بالقوة لمصلحة إنشاء إسرائيل في ظروف دولية وإقليمية معقدة. * باحث - مكتب الاحصاء الفلسطيني - دمشق