من رينهارد آنسلم فيبر الى شارل غونو، ومن رودولف كرويتزر الى جول باربييه، مروراً بنحو دزينة من كبار الموسيقيين الاوروبيين الذين لمعوا خلال القرون الغابرة، كانوا كثراً اولئك المبدعون الذين رأوا في المناضلة الفرنسية ضد الانكليز، جان دارك، مصدر الهامهم، فوضعوا عنها اوبرات عدة وقطعاً موسيقية واغنيات متنوعة، بعضها استلهم التاريخ الرسمي مباشرة، وبعضها استلهم اعمالاً أدبية تناولت حياة"عذراء اورليان"ومأساتها مثل تلك التي كتبها شيلر او فولتير او غيرهما. ومع هذا يظل العمل الموسيقي الاشهر الذي جعل من جان دارك بطلته، اوبرا الايطالي جوزيبي فيردي التي تحمل بكل بساطة عنوان"جان دارك"ولحنت انطلاقاً من نص شعري كتبه تيميستوكل سوليرا، لتقدم في المرة الاولى في ميلانو، العام 1845. لتكون بذلك ذات الرقم ثمانية، في الترتيب الزمني لاوبرات فيردي، اذ أتت بعد"هرناني"و"لي دوي فوسكاري"وقبل"آلزيري"و"هارولد".. وسجلت في حينه علامة فارقة في تعامل فيردي مع الشخصيات التاريخية في اعماله. تتألف اوبرا"جاك دارك"من مقدمة تمهيدية وثلاثة فصول، اشتغل عليها فيردي طوال ثلاثة اشهر، عمد خلالها وهو في اوج انشغاله بالتلحين واستنباط الجمل والفقرات الموسيقية التي تلائم بين زمن جان دارك، والحداثة التي كان يتوخاها في ذلك الحين، عمد الى قراءة عشرات النصوص حول تاريخ فرنسا، ولا سيما قراءة مسرحية شيلر حول"جان دارك"وهي المسرحية التي استلهمها كاتب النص الذي اعتمده، اجواء ومناخات، وان كان قد بدل في بعض المعطيات كما سنرى. ان الغريب في تعاطي فاغنر وكاتبه مع هذا العمل هو ان هذا الاخير - أي سوليرا - اضاف وبدل في احداث حياة ومصير جان دارك في شكل"ما كان شيلر ليتخيله ابداً"و"ما كان فولتير يحلم بأن يحدثه حتى وان كان من شأنه ان يفكر فيه حقاً"، وفي شكل يقول بعض النقاد والدارسين انه اذ اتى من وحي خيال فيردي وسوليرا معاً، جاء التاريخ دائماً ليكذبه مؤكداً ان الامور لم تجر ابداً في الحقيقة، كما تجرى في الاوبرا.. بيد ان فاغنر لم يأبه كثيراً لهذا، بل قال دائماً لمن انتقدوه انه يقدم هنا عملاً فنياً خيالياً، يستوحي حياة جان دارك، ليعيد تفسيرها، اما التاريخ فيمكن قراءته، على حقيقته في الكتب العلمية! واذ قال فيردي هذا، رأى ان في امكانه ان"يقنع"متفرجيه ببعض"التغييرات"الجذرية التي اضفاها سوليرا على الواقع التاريخي المعهود. ومن ذلك ان جان دارك الاوبرا، صارت على علاقة مدانة مع الملك شارل السابع. ومنه ان والد جان دارك، الذي كان معوَّقاً عقلياً كما يبدو، انخرط في الجيش الانكليزي ضد ابنته وشعبه حتى يتمكن، وبكل حررية، من ان يندد ويفضح الممارسات المشعوذة والسحرية التي اكد ان ابنته كانت تمارسها. واخيراً، وهذا اسوأ ما في الامر بالنسبة الى الفرنسيين، اتت اوبرا فيردي لتقول ان جان دارك لم تمت ابداً فوق محرقة، بل بين يدي عشيقها الملك، في وقت كانت فيه الجيوش الفرنسية التي قادتها هي والملك الى الانتصار، تحتفل بذلك الانتصار"وسط غابة من الاعلام المظفرة". واضح ان فيردي - وكاتبه - خرقا في هذه"التغييرات"كل المحاظير التي يمكن التهاون معها، لينسفا الاسطورة من اساسها.. فهل فعل الاثنان هذا، انطلاقاً من مواقف سياسية محدودة، أم لمجرد العثور علىعناصر درامية اضافية تمكن الاوبرا من ان تفاجئ، شكلاً ومضموناً، جمهوراً لم يعتد كل هذا التغيير الجذري يطاول حقبة تاريخية متعارفاً على احداثها؟ من الصعب، طبعاً، الاجابة في شكل جذري، وقاطع على هذا السؤال.. لكن في امكاننا ان تقول ان الانكليز لا ريب سروا كثيراً بهذا العمل يفضح"اسطورة"طويلاً ما استخدمت ضدهم، محولة جان دارك الى مراتب القديسين، ومن هنا ما نلاحظه من ان هذه الاوبرا التي تردد الفرنسيون كثيراً دون تقديمها على خشباتهم، وانبرى موسيقيوهم للرد عليها في اعمال صاخبة اوبرا شارل غونو مثلاً، قدمت كثيراً على الخشبات الانكليزية، حيث فضلها الانكليز دائماً على أي عمل آخر لفيردي. غير ان هذا كله يظل اموراً شكلية بالنظر الى جوهر العمل. فالحقيقة اننا، بصرف النظر عن الحقيقة التاريخية - التي من المؤكد ان لا احد يملكها قاطعة بالضرورة، نجدنا هنا أمام عمل فني متكامل لفنان كان في تلك الآونة يعيش ذروة مجده الفني وبالتالي لا يتوانى عن اعتبار كل الوسائل صالحة لخدمة ذلك الفن والتجديد فيه، بما في ذلك التلاعب بالتاريخ، خصوصاً ان هذا التلاعب يأتي لديه متماشياً مع المنطق، محاولاً تخليص ذلك التاريخ مما يبدو فيه اسطورياً، صنعته الذاكرة والارادة الشعبيتان والرسميتان المتراكمتان، اكثر ما صنعه الواقع الحقيقي لما يمكن ان يكون قد حدث. وانطلاقاً من هذا"القرار"واضح هنا ان فيردي تعمد ان يعطي هذا العمل قدراً كبيراً من البعد الفني، لاقامة نوع من التوازن، بين صخب التلاعب بالتاريخ وابهار الناس بالتجديدات الابداعية. وبالفعل يجمع دارسو سيرة فيردي، على ان التجديدات الفنية الرائعة التي ادخلها الفنان الايطالي الكبير على فن الاوبرا الدرامية، وعلى الابعاد الموسيقية الخالصة، شغلت متفرجيه ومستمعيه حقاً عن الالتفات الى التجديف التاريخي الذي اقترفه. ويسري هذا القول في شكل خاص على الافتتاحية الاوركسترالية التي خص بها فيردي هذا العمل، ما ادخل جمهوره في البعد الفني منذ البداية مبهراً اياه، دافعاً اياه - في الوقت نفسه - الى عيش لحظات توقع مدهشة، انست الجمهور حتى بعض لحظات الضعف - ليس التاريخي وانما الفني هذه المرة -. ذلك انه في مقابل لحظات كبيرة، من الناحية الموسيقية، في هذا العمل، ثمة لحظات ضعف لا شك فيها هي التي سوف يركز الفرنسيون عليها، انتقاماً من فيردي الذي"شوه سمعة بطلتهم القومية". غير ان الفرنسيين لم يكونوا وحدهم الذين ازعجهم هذا العمل.. بل كان هناك ايضاً النمساويون الذين كانوا في ذلك الحين يسيطرون على مقدرات الامور في ايطالياالمحتلة وتتحكم رقابتهم بفنونها الشعبية واستعراضاتها العامة. وهؤلاء منعوا تقديم الاوبرا في باليرمو في العام 1847، بعدما رأوا ان جان دارك تكثر فيها من الحديث عن الحرية والاستقلال منددة باحتلال جيش مجاور لبلد لا يريد اهله هذا الاحتلال الشقيق. وهذا ما جعل فيردي يغير كثيراً من العمل بل دفعه لاحقاً الى اخذ موسيقى المقدمة وربطها باعمال اوبرالية لاحقة له، بل انه في خطوة تالية، جزّأ بعض مشاهد جان دارك، ليضمها والبطلة نفسها الى اوبرا تالية له هي"اورييتادي ليزبو"فتصبح جان دارك رفيقة للشاعرة سافو في جزيرة ليزبوس. من الواضح ان الجمهور كان سيغضب كثيراً لو ان موسيقياً آخر فعل هذا.. ولكن اذ كان الفاعل جوزيبي فيردي 1813 - 1901، كان في وسع الجمهور ان يغفر، بل ان يرحب ايضاً، ذلك انه يحق لفنان من هذا المستوى ما لا يحق لغيره، هو الذي نهضت الاوبرا الايطالية على يديه، واغنى تراث الاوبرا العالمية باعمال خالدة مثل"عايدة"و"قوة القدر"و"نبوخذ نصر"و"سيمون بوكانغرا"و"لاترافياتا"و"هرناني"و"ماكبث"...وغيرها.