لا يمكن من يشاهد أوبرا "فاوست" كما لحنها الفرنسي شارل غونو، وقدمت للمرة الأولى في شهر آذار مارس 1859، أن يسعى الى البحث عن المعاني الفلسفية والميتافيزيقية التي حملها كاتب ألمانيا الكبير غوته للأسطورة الشهيرة، محولاً إياها الى عمل مسرحي لا يزال يعتبر الى اليوم واحداً من اهم وأضخم الأعمال الأدبية في تاريخ البشرية. فالحال ان شارل غونو، كان يعرف محدودية فن الأوبرا بالنسبة الى نقل عمل ادبي تأملي يقع في مئات الصفحات الى عمل مسرحي غنائي يشغل ساعتين من الزمن على الأكثر. وعلى رغم ان غونو ظل يحلم طوال سنوات بأن يُمَوْسق نص غوته، وبالتحديد منذ اكتشف النص وتعلق به خلال اقامته لفترة في روما في مستهل شبابه، وكان عليه ان يختار فوقع اختياره على الجزء من "فاوست" المتعلق فقط بحكاية الغرام العنيف بين فاوست ومرغريت، جاعلاً من هذه الحكاية عماد أوبراه. غير ان هذا الاختيار المحصور لم ينقص من قيمة ابداع غونو الموسيقي الذي طلع على المتفرجين والمستمعين في زمن لم يكن فيه لفن الأوبرا، في فرنسا، باع، هي التي كانت عاجزة في هذا الفن، عن مجاراة جارتيها الكبيرتين ألمانيا وإيطاليا، حيث فن الأوبرا في ازدهار، وحيث ينكب كبار الموسيقيين على الإبداع في هذا النوع، وحيث الجمهور يتابع ويندفق دون هوادة. قبل "فاوست" غونو، كان فن الأوبرا في فرنسا مستورداً تماماً. ولكن، منذ ذلك الحين بدأ المؤلفون الفرنسيون يبدعون بدورهم في هذا الفن، وهكذا خلال عقدين او ثلاثة من السنين، بات في استطاعة عالم الموسيقى الفرنسية ان يفخر هو ايضاً بأن له أوبراته ومؤلفيها، وكانت قد نسيت تماماً حقيقة ان غونو انما اعتمد على نص ألماني، واستلهم كبار الموسيقيين الإيطاليين، إذ كان يقيم في ايطاليا كما اشرنا. لم يكن هذا كله مهماً. المهم كان ان فن الأوبرا الفرنسي بات يعرف مذّاك نهضة تأسيسية ستكون ذات شأن لاحقاً. تماماً كما ان "فاوست" غونو ستكون ذات شأن، ليس في فن الأوبرا الفرنسي وحده، بل في الأوبرا العالمية، وحتى اليوم لا يزال ذلك العرض الذي قدمت فيه اوبرا "فاوست" للمرة الأولى - غناءً وأيضاً مع حوارات منثورة - يعتبر منعطفاً تاريخياً، تماماً كما ان تاريخ الموسيقى لا يفوته ان يذكر ان السوبرانو كارولين ميولان - كارفاليو، التي قامت بدور مرغريت في ذلك العرض، كانت الأولى - تاريخياً - بين عشرات سيقمن بالدور بعدها. تتألف أوبرا "فاوست" كما لحنها غونو انطلاقاً من تلخيص قام به جول باربييه وميشال كاريه للقسم الأول من "فاوست" غوته كان ترجمه جيرار دي نرفال الى الفرنسية، من خمسة فصول تتتابع امام انظارنا على النحو التالي: تدور احداث الفصل الأول في مكتب الدكتور فاوست الذي نرصد على الفور ضجره من حياة عقيمة يعيشها ويستعد للانتحار بتناول السم. وهنا يظهر له الشيطان تحت اسم فيستو، ويقترح عليه ان يعيد إليه شبابه وبواعث اللذة في الحياة، في مقابل ان يسلمه روحه. وهي لكي يقنعه بالقبول يمكنه من ان يرى طيف مرغريت، الشابة الحسناء التي ستكون له عما قريب، وإن هو قبل. فيقبل ويوقع العقد. في الفصل الثاني تجدنا وسط احتفال عند ابواب المدينة، وإلى اليسار حانة يصخب فيها جمع من الجنود والبورجوازيين والطلاب وهم ينشدون اغنية "نبيذ أو جعة" التي ستصبح شهيرة لاحقاً وستكون واحداً من النماذج التي سيبني كارل اورف انطلاقاً منها عمله "كارمينا بورانا". ومن بين الحاضرين فالنتان، الجندي الشاب الذي سيرحل الى جبهة الحرب بعد قليل. وها هو الآن يطلب من صديقيه فاغنر وسيبل ان يسهرا على اخته مرغريت ويعتنيا بها. وهنا يظهر مفيستو وسط الاحتفال وينضم إليه فاوست. وحين تظهر مرغريت يحاول فاوست مغازلتها والدنو منها، ولكنها تصده مبتعدة عن المكان في سرعة. وفي الفصل الثالث تجدنا في حديقة منزل مرغريت، حيث يدخل سيبل الموله بها ليضع باقة من الورد قبل ان يخرج من دون ان يتنبه اليه أحد. وبعد ذلك يدخل فاوست ومفيستو الى الحديقة، ويندفع فاوست منشداً: "أيها البيت العفيف النقي سلاماً"، فيما يترك رفيقه في المكان صندوقاً مملوءاً بالمجوهرات. وإذ تعود مرغريت الى المكان تجد باقة الورد وصندوق المجوهرات، وتسائل مربيتها مارتا عمن يكن ذلك العاشق الذي ترك لها كل هذا تعبيراً عن حبه. وهنا يظهر مفيستو وفاوست. مفيستو يمارس قواه السحرية على زهور الحديقة فيما تشعر مرغريت بانجذاب الى فاوست وتدعه يقبلها. يدور الفصل الخامس في غرفة مرغريت. وهذه وضعت لتوها طفلها الذي انجبته من فاوست، غير انها تبدو غارقة في احزانها لأن حبيبها هذا قد آثر هجرانها. اما سيبل الوفي دائماً لحبه لها، فها هو بجانبها محاولاً مواساتها والتخفيف عنها. وإذ تنتقل الأحداث الى الساحة العامة تطالعنا مسيرة الجنود العائدين من الجبهة ومن بينهم فالنتان، شقيق مرغريت، الذي ما ان يدري بما حدث حتى يقرر الانتقام لشرف اخته. وهنا يظهر فاوست مجدداً ويقتتل مع الجندي الشاب. ويصاب هذا الأخير، من جراء الاقتتال، بجروح قاتلة، وفيما يكون على احتضار، يلعن اخته الى أبد الآبدين. تحاول مرغريت الصلاة والاستغفار بيد ان الشياطين تظهر لها مانعة اياها من ذلك، فتقاوم وتنهي صلاتها قبل ان تسقط مغشياً عليها. ستارة الفصل الخامس والأخير تنفتح على كهف مزين، في وسطه مأدبة عامرة بأطعمة احتفال، والمائدة محاطة بوصيفات رائعات وكأنهن قادمات من عمق الأزمان القديمة. ومن فتحة عريضة في جدار الكهف يلوح جبل هارتس الأسطوري. وفجأة يظهر مفيستو وفاوست محاطين بالساحرات. لكن المشهد ينقلب فجأة الى داخل سجن لنكتشف ان مرغريت اذ قتلت طفلها اودعت هنا. لكن فاوست، ودائماً بفضل مفيستو تمكن من الحصول على مفاتيح الزنزانة، وانضم الى حبيبته وراحا يغنيان معاً "دويتو" الحب، الذي يعتبر الأشهر في تاريخ الأوبرا الفرنسية. وعندما تنتهي الأغنية يسأل فاوست مرغريت ان تهرب معه، لكن هذه ترفض، لأنها تريد من العناية الإلهية ان تغفر لها بمعاقبتها على ما فعلت. ويدب اليأس هنا في اوصال فاوست الذي يخر مفجوعاً على قدميه، فيما تطير روح مرغريت نحو السماء. واضح من هذا السرد ان غونو لم يقدم عمل غوته بأبعاده كلها، وإنما آثر أن يجتزئ منه ذلك القسم الأكثر رومانسية وامتلاء بالخبطات المسرحية، كما يجدر بالنص الأوبرالي ان يكون. ومن هنا يمكن النظر الى "فاوست" الأوبرا باعتبارها شيئاً آخر غير "فاوست" المسرح. وكذلك يمكننا ان نميز "فاوست" غونو، عن غيرها من الأعمال الموسيقية التي استوحت الأسطورة الشهيرة بدءاً من اول اوبرا استوحت "فاوست" وكانت للألماني لودفيغ سبوهر 1784- 1859، مروراً بالمقاطع السبع التي لحنها ريتشارد فاغنر 1813- 1883 وصولاً الى افتتاحية فون لند باتر الفاوستية، وإلى أوبرا "لعنة فاوست" لهكتور برليوز 1803- 1869، وسيمفونية "فاوست" لفرانتز ليست 1811- 1886 بين اعمال اخرى. مهما يكن فإن أوبرا "فاوست" تعتبر الأشهر والأكثر حياة بين اعمال شارل غونو 1818- 1893 الذي ولد في باريس في بيئة منفتحة على الفنون. وهو بعدما درس في ليسيه سان - لوي، نال بكالوريوس الفلسفة في الوقت الذي درس فيه الموسيقى مع الموسيقي انطونان ريشا، ثم اكتشف اعمال روسيني وموتسارت، قبل ان يشارك في مسابقة روما الشهيرة في العام 1837، ويحصل على الجائزة الثانية، ثم حصل بعد عامين على الجائزة الأولى بفضل "الكانتانا" التي كانت من اولى اعماله التي انتشرت بسرعة. وهو خلال اقامة تالية له في روما راح ينكبّ على الأدب غوته ولارمارتين بين آخرين مستلهماً منه مؤلفاته. وخلال الفترة التالية اهتم بالموسيقى الدينية. وفي العام 1843 عاد الى باريس مديراً للموسيقى في كنيسة البعثات الأجنبية. وكان في الثلاثين حين ابتعد عن الموسيقى الدينية لينصرف الى الأوبرا والموسيقى المسرحية. ثم عين مديراً لأوبرا باريس، ووضع النشيد الوطني الجديد المكرس لمجد "الامبراطور" نابوليون الثالث. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف غونو عن الإنتاج. واضعاً اعمالاً باتت شعبية مثل أوبرا "روميو وجولييت" و"اليمامة" و"الطبيب رغماً عنه"، اضافة الى اوراتوريو "التوبة" و"موت وحياة"...