"حزب الله" إنتصر. فعلاً إنتصر. حطّمَ أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يُقهر. أوقع العدد الاكبر من القتلى من بين المدنيين والعسكريين الاسرائيليين. شبكة صواريخه ومضاداتها بقيت تعمل. اصابت صواريخه عمقاً اسرائيلياً، وعلى الأقل بارجة اسرائيلية رابضة في المياه الاقليمية اللبنانية... عدد الشهداء من بين صفوفه قليلون. مقاتلوه، وباعتراف العدو نفسه، أبدوا بسالة ومهارة أثارا الاعجاب. والشهداء من بين المدنيين، وخاصة الاطفال، كانوا رصيده الرمزي الزاخر... خاصة مجزرة قانا الرهيبة. وماذا بعد من دلائل هذا النصر؟ ربما اشياء كثيرة اخرى سوف يكشفها الزمن. لكن الاهم من كل هذا"الوعد"المتحقّق، الصدى العربي لحرب اسرائيل مع"حزب الله"والتحامه بجيشها. الحدث بدا وكأنه يلبّي احتقاناً لم تكن برامج الاصلاح السياسي والدستوري للتعبئة والحشد لتكفيها. فتفجرت الاحزاب والاقلام والاصوات، تحيي المقاومة الباسلة بقيادة حسن نصر الله. احزاب تعقد المهرجانات الحماسية ويخرج جمهورها الى التظاهرات صارخاً"نصر الله يا حبيب، دمّر دمّر تل أبيب...!"مذكّرا بخطب احمد نجاد الدونكيشوتية ضد اسرائيل. اقلام اعلنت عن خلغ ثوبها الليبرالي والعقلاني، واستبداله بثوب تأييد المقاومة ونصرتها. اصوات اخرى تساءلت عن فائدة التحليل لحدث كهذا، اذا كان"يصبّ في خدمة الاهداف الاميركية والاسرائيلية، ويوفّر غطاء للعدوان الحالي". يساريون، قوميون، ليبراليون... كلهم يهتفون للمقاومة ولنصرة نصر الله. واما القيادة لكل هذه الحماسة، النواة الصلبة لمجمل هذا الصدى، فهم"الاخوان المسلمون". فهم الآن في صدارة الدعم للمقاومة الاسلامية في لبنان. ومع هذا الحجم الجديد لموقعهم لغةً تعشقها ثقافتنا السياسية الراهنة: الجهاد المقدس ضد اسرائيل. شعارات، ونموذج ايراني وترحيب حماسي بايران و"حزب الله"وتجاوز للخلاف التاريخي الفقهي القديم الراسخ في العقائد، اي الخلاف السني-الشيعي"وقفة هي الاولى ربما في تاريخ الحركات الاسلامية السنية تجاوز فيها"الاخوان"هذا الخلاف، بغية ملاقاة المقاومة اللبنانية ومعها الفلسطينية بصفة ذلك"واجباً شرعياً". فبُعيد شعار"الاسلام هو الحل"الذي رفع"الاخوان المسلمين"الى فوز برلماني غير مسبوق، جاء الآن شعار"المقاومة هي الحل". وباقتران الشعارين، تكتمل التعبئة اللازمة والحشد القادر على زعزعة نظام يتهمه خصومه بالتشبث بالسلطة وبعدم ايمانه وبتخاذله امام اسرئيل. انها صيغة"الاسلام والمقاومة هما الحل"التي تلخص مزاجا شعبيا قويا انجرفت اليه النخبة الفكرية والثقافية غير الاسلامية طائعة مطيعة... صيغة من زمن ما قبل حداثي. نموذجها السياسي شبه مقدس، تمكّن من الاستيلاء على ساحة حساسة لمشاهد التلفزيون... فلا مانع ان يكون الصانع الاكبر لهذا الحدث، ايران و"حزب الله"طالما هما الآن الرافعة، وليكن ثمة كومنترن اسلامي، ذو قرارات مركزية وتوجه استراتيجي مضمون ومسنود وخطاب يزرع الرعب كل يوم في قلوب ابناء اسرائيل يدور حول نهايتهم الوشيكة واختفائهم عن الخريطة واندماج من تبقى منهم في المجتمع والدولة الاسلاميَين. هدية أو لغم؟ تنظيم"القاعدة"اتت في مناخ كهذا: خطاب رجلها الثاني، ايمن الظواهري، المتضامن مع"حزب الله": لم يعلق عليه"حزب الله"، وهو ربما كان دليلاً على قبول ما. لكن الاقلام والاصوات، ومجمل الصدى، أعطت إيحاء بأن دعوة الظواهري التضامنية فرصة ثمينة يجب عدم تفويتها، لتوحيد السنة والشيعة في معركة موحدة ضد اسرائيل"او ان نداء الظواهري، كما رأى احد"منظّري"الاسلام السياسي،"فرصة تاريخية لنسيان ما تسبب به تنظيم القاعدة ضد الشيعة في العراق". الصدى العربي لعملية"حزب الله"وتوابعها: لسان وقيادة اسلامية، وحولهما بقايا قوميين ويسار وليبراليين، يتوقون جميعهم الى اسقاط قيادات متخاذلة في المعركة مع اسرائيل. يسعون الى اخذ مكانهم الصحيح في السلطة تحت شعار"المقاومة والاسلام"، فيستتب عصر جديد من الصراع في الشرق الاوسط، بقيادة العمائم المسلحة بميليشيات بدل العسكر"العلماني"المنظّم. صور عبد الناصر جنبا الى جنب مع صور نصر الله او حتى صور بشار الاسد مع صور نصر الله في شوارع دمشق. وكم من حبر سال للمقارنة بينهما، في العنفوان والتحدي والكرامة"مع ان عبد الناصر انتهي مهزوماً. بالمناسبة: لا اعرف لماذا نحب ابطالنا المهزومين كل هذا الحب؟!. المهم: بعد صورة عبد الناصر، ظهرت على الشاشة صورتا نصر الله وايمن الظواهري... وبقيتا. كأن الشاشة تحث المشاهد على القبول بإقتران مصيرهما. فإذا كان القصد من عملية 12 تموز يوليو ان يفتح"حزب الله"جبهة تشعل وتنعش التيارات والتنظيمات الاصولية، والاحزاب الاخرى المنجرفة في مسالكها، من اجل مقاتلة اسرائيل والغاء اتفاقية السلام، وذلك بقيادة ودعم وربما تمويل من ايران، ومن ثم الدخول في عصر جديد من الحروب الحضارية-الدينية، المعروفة بحرب الحضارات والقيادات الايرانية لا تبْخل يوميا بإشارات الدعم لأجندة كهذه... اذا كان هذا هو المقصود من العملية، او أحد الأهداف المقصودة، فان"حزب الله"فعلا انتصر. انتصر على اسطورة وعلى تاريخ، لكنه انتصر ايضاً على وطن. من أجل ان يكسر الاسطورة والتاريخ، أُخذ لبنان رهينة، وكان ما كان من مأساة. وكلما زاد، ويا للمفارقة! عدد الضحايا بيننا، تأبْلس العدو، وارتفعت اسهم"الحزب"ورفع من نبرة صوته. كأن استشهاد المدنيين اعطاه الحق بما كان يراه من وحشية اسرائيل. ولم يأخذ الحق من ان سلاحه لحماية لبنان والجنوب... فتداخل هنا النصر بالهزيمة، النصر المعلن والهزيمة الصامتة. والمرء يقع هنا حائرا بين الاثنين. فالواقع اليوم اننا نعيش بين منكوبين ودمار وارواح بريئة راحلة ودولة مضعْضعة. لكن الأهم نكبة الشيعة اللبنانيين في لبنان ومعه. فالنصر كما يتحدث عنه البعض خلّف وراءه طائفة على اطلال ارضها. هذا وجه من مجهول يستطيع لبنان استباقه: بأن يحتضن الشيعة المنكوبين، ليس في القلوب والعقول فحسب، بل في ما يخلّصهم من الخيارات السياسية التي أفضت بهم الى حيث هم الآن. اي ان المطلوب، بعد التعاطف الاهلي، ان تكون الدولة اللبنانية الحاضنة الاساسية انسانيا وسياسيا لنكبة الشيعة اللبنانيين. انسانيا بالاغاثة غير الفاسدة والمفسدة، وغير المقتصرة على ممثلي الطوائف. وسياسياً بالاسراع في مناقشة القرارات الردعية للمخولين تنفيذ قرارات دولية تحمي الجنوب المنكوب من اي جنون اسرائيلي آخر، وان تفتح الدولة ذراعها لهم بحيث يكون من حقهم عليها التمييز الايجابي. الشيعة اللبنانيون مهما ثُكلوا ونكبوا، فلن يهتفوا ربما الا بحياة من يهتفون بحياته. وهذه مشكلة مع بقية مكوّنات المجتمع اللبناني. وهو دليل مأزق وانعدام الخيار لديهم. لكن الدولة وحدها تستطيع التأثير، بأقنية أشد وعداً بالحياة مما بالموت. فالدولة القوية الآن هي تلك التي تستطيع ان تبني جسوراً انكسرت. وقد تكون فرصة، بعد كل هذه المأساة، لإنقاذ وطن من ركامه تحت مظلة يخترعها بنفسه، تجمع مختلفي الطوائف برؤية وطنية شاملة الجميع، ما يتناقض جذريا مع المشاريع التدميرية المجنونة. حمانا الله من تكرارها.