ها هي المأساة تضرب بيدٍ هوجاء من حديد، فتطيح بمستقبل لبنان بعد أن بدأ استعادة أنفاسه ولملمة جراح تكبدها خلال حرب أهلية واحتلال استمرا لمدة 25 سنة. وها هو رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يتوعد بإعادة عقارب الساعة في لبنان 20 سنة إلى الوراء. لا بدّ أن نهنئ إسرائيل! لقد حققت غايتها المشينة، وأسقطت القناع عن وجهها ليراها العالم ويدرك غياب إنسانيتها. فصواريخها اللعينة ترسل الهدايا من"أطفال إسرائيل"إلى أطفال لبنان! لقد أصابني العدوان في الصميم. فأنا رأيت بيروت للمرة الأولى في ربيع 1974 مدينةً راقية متألقة لا مثيل لرقيها وتألقها في مدن العالم أجمع. لكن لم تلبث يد الغدر الغريبة أن عاثت بها إجراماً وحرباً. وعدت إلى لبنان في سنة 2000 حين كان الإسرائيليون ينسحبون هروباً من الجنوب. لقد كانت تلك الحقبة حقبة فرح عارم عمّ لبنانوبيروت التي كان وسطها ينفض عنه غبار الحرب ويكاد بناؤه ينتهي. وكانت الاستثمارات الأجنبية بدأت بالتوافد. أما الانسحاب السوري السنة الماضية، فقد كان بمثابة مسْك النهاية حيث قام لبنان الذي أعهده كطائر الفينيق من بين الرماد ليضج بالحياة. إلا أنه ما إن استعاد لبنان إشراقه واستعد لاستقبال وفود السياح التي بلغ عددها مليون و600 الف سائح، حتى قامت إسرائيل بكل ما أوتيت من غرور وانتقام لتزهق حياة أهله وتدمر أرضه وتسحق أحلامه وتبدد آماله بدباباتها وقنابلها. وصدق مسؤولو الأممالمتحدة والمدافعون عن حقوق الإنسان حين وضعوا ما يجري في خانة جرائم الحرب. والذين يوجهون اللوم الى"حزب الله"بسبب ما يجري فعليهم مواجهة فيلق البيت الأبيض وعلى رأسه المحافظون الجدد الذين يعتقدون أن مصائب المنطقة مصدرها سورية أو إيران، أو كلاهما. والأجدر بهم إدانة إسرائيل على ردة فعلها المأساوية المبالغ بها وعلى رفضها التفاوض بشأن إمكانية تبادل الأسرى مع حزب مقاوم تنعته الولاياتالمتحدة وحلفاؤها بال"الإرهابي". هذا هو الواقع المرير. ولا يجب أن يقع اللوم على الحكومة اللبنانية أو الشعب اللبناني لما آلت إليه أحوال البلاد من تدهور. فالشعب اللبناني يجد نفسه أمام مشهد مرير يتهجّر فيه المواطنون من منازلهم ويبحثون بمرارة بين الركام عن أجساد شهدائهم من نساء وأطفال وشيوخ. واللبناني ينظر نظرة المتسائل الذي لا حول له ولا قوة إلى دمار المطار المتألق، والطرقات والجسور والمرافئ الحديثة. باختصار، الشعب اللبناني وحكومته براء مما يحصل، إلا أن هذه البراءة لم تشفع أمام الثمن الباهظ الذي يدفع من اكثر من 900 لقوا حتفهم ومليون شخص يعانون التشرد والتهجير من أرضهم. الرؤساء العرب جميعهم يدركون هذه الحقائق. الاتحاد الأوروبي يدرك هذه الحقائق. الأممالمتحدة تدرك هذه الحقائق. وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، يدرك إدراكاً تاماً هذه الحقائق. وعلى رغم ذلك، فإن كبرى الدول تظهر وبكلّ"حكمة مضحكة مبكية"أنها مستعدة للتضحية بلبنان ، وهو ليس ملكاً لها، في سبيل تطبيق أجندتها الخاصة. أعود لأكرر، أن لبنان ليس ملكاً للسياسيين الذين يعيشون على بعد آلاف الأميال من واقعه، وهو ليس ملكاً لهم ليتصرفوا به كما يشاؤون ويضحوا به كما تملي عليهم أهواؤهم. فلنعد النظر بالحقائق والوقائع. كان مجلس الأمن على وشك إصدار قرار معدّ لوقف الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، إلا أن جون بولتون، سفير الولاياتالمتحدة الأميركية لدى الأممالمتحدة، جابهه بالفيتو. أما رئيس الوزراء اللبناني، فؤاد السنيورة، فقد أطلق نداء مؤثراً إلى"صديقه"في البيت الأبيض، إلا أنه أدرك أخيراً أن الولاياتالمتحدة لا تعترف إلا بإسرائيل صديقاً لها. ومن جهتها عقدت جامعة الدول العربية اجتماعاً لصياغة ردّ على هذه الأزمة إلا أن الاجتماع انتهى بمشهد ظهر فيه عمرو موسى مظهر الغاضب ولم يكن له من حول أو قوة سوى نعي عملية السلام:"عملية السلام ماتت". وسبق للاتحاد الأوروبي أن أنّب إسرائيل على الاستخدام غير المتوازن للقوة، إلا أن فرنساوبريطانيا وألمانيا ما لبثت أن غيّرت رأيها ووقعت على إعلان في قمة الثمانية وجهت فيه أصابع الاتهام إلى حزب الله. وحتى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي شكك سابقاً بنوايا إسرائيل وراء تصعيد النزاع، عاد ليوقع على هذه الوثيقة المنحازة إلى جانب إسرائيل. والآن ومع وقوع هذا الدمار، تحاول هذه القوى التراجع عن موقفها، إلا أن الأوان قد فات. امتثالها إلى سطوة الولاياتالمتحدة الأميركية ظهر إلى العلن. واقترح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، وقف إطلاق فوري للنار ترعاه قوة حفظ سلام دولية. إلا أن بلير أقرّ لاحقاً أن ذلك بعيد المنال. فواشنطن أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل كي ترتكب فظائعها في ظلّ غطاء"الحرب على الإرهاب". وبالتالي، حين يخضع المجتمع الدولي لثنائي الولاياتالمتحدة وإسرائيل، ما حيلة لبنان أمام رفض إسرائيل التفاوض بشأن تبادل الأسرى وأمام تصميمها العلني على تدمير حزب الله؟ أهون الشرين بالنسبة الى لبنان هو ممارسة ضغط دولي على كلّ من إسرائيل وحزب الله للموافقة على وقف إطلاق النار في مقابل بعض الإجراءات التي تحفظ ماء الوجه للطرفين. وقد يترتب على هذا السيناريو المحتمل انسحاب حزب الله من الحدود الجنوبية اللبنانية، التي قد توكل مهمة مراقبتها إلى الجيش اللبناني أو قوة دولية، أو إلى الاثنين معاً. ولا بدّ في هذه الحالة أيضاً من عملية تبادل أسرى. وأما بالنسبة الى حزب الله، فتسجل له واقعة مواجهة إسرائيل، التي لها أن تدعي من جهتها أنها قامت بحماية مواطنيها من اعتداءات إضافية يقوم بها حزب الله. وفي سيناريو بديل، يمكن لإسرائيل أن تتجاهل دعوة الأممالمتحدة الملحة إلى وقف التصعيد والاستمرار في حملتها المدمرة. إلا أن ذلك قد يوحد صفوف غالبية اللبنانيين وراء حزب الله ومن بينهم الذين يخالفون بشكل أساسي عقيدته. وقد بدأت مؤخراً فرق من الجيش اللبناني المشاركة في المواجهة، لا سيما بعد أن اصبحت وحدات الجيش هدفاً للغارات الإسرائيلية. وقد أعلنت الحكومة اللبنانية أنه في حال حدوث اجتياح للبنان، فإن الجيش اللبناني سيقوم بالدفاع عن الأراضي اللبنانية. أما السيناريو الثالث وهو الأسوأ بالنسبة الى المنطقة والعالم بشكلٍ عام، فيتمثل باستدراج سورية إلى النزاع عن قصد أو غير قصد، وقد سبق لإيران أن أعلنت بشكلٍ واضح أنها لن تتأخر في الرد. ويساور القلق واشنطن بشأن التناغم الجديد بين إيران وكوريا الشمالية. حينئذٍ، ليس في الأمر مبالغة إذا أشرنا انها بوادر حرب عالمية ثالثة، تهرع فيها الولاياتالمتحدة الأميركية إلى نجدة إسرائيل والدفاع عنها. قال بيل كلنتون في إحدى المرات أنه لو هوجمت إسرائيل لهبّ هو للدفاع عنها شخصياً. ووعد جورج بوش إسرائيل أن الولاياتالمتحدة لن تخلّ بوعودها لها مهما كانت الظروف. ومع اقتراب الانتخابات لا يمكن لأي مرشح للرئاسة الأميركية أن يتكبد خسارة دعم اللوبي الإسرائيلي القوي. وأما بريطانيا وألمانيا، الحريصتان على العلاقات مع الولاياتالمتحدة، فلا خيار أمامهما سوى الانضمام إلى صفوف الداعمين لإسرائيل، وتلك هي حال أستراليا واليابان وربما كندا. في حين أن إسبانيا واليونان وإيطاليا قد تنتهي بها الحال إلى التغريد خارج السرب وربما المخاطرة بتفكك نهائي للاتحاد الأوروبي. وهذا ما دفع واشنطن إلى التصرّف الآن لتفادي خروج هذه الحالة عن السيطرة. فالولاياتالمتحدة الأميركية هي الوحيدة القادرة على ممارسة ضغط على إسرائيل من جهة، وتجنيد علاقاتها الجيدة مع الدول العربية الصديقة لها للتفاوض مع حزب الله وسورية وإيران. باختصار، هناك خياران لا ثالث لهما: إما التفاوض وإما الدمار. الأمر يتعلق بالنفس الإنسانية وليس بلعبة. والدم الذي يزهق حقيقي لا تمثيل فيه. واللبنانيون يستنجدون بالمجتمع الدولي. لا وصف لتجاهل الدول الغربية القوية سوى كلمة واحدة: فادح! وإذا كانت الولاياتالمتحدة تعتبر نفسها الشرطي الحامي للعالم، لتتخلى لمرة واحدة عن سياساتها المحدودة النظر ولتعتمد المبادئ الإنسانية وحفظ السلام! وإذا كان بوش وبلير يطمحان إلى ترك ذكرى طيبة تخلدهما فهذه هي فرصتهما. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط