عرفت نجيب محفوظ في مرحلة متأخرة، كنت أظن وبعض الظن إثم ان العالم ما هو إلا ريف واحد، بمعنى انني كنت لا أتصور مصر إلا سهلاً أخضر على النهر، ومع تجربة التجنيد التي أخذتني الى أقصى حدودها فوجئت بأنها مجرد واحة بائسة في صحراء تمتد من الأطلسي غرباً حتى حدود الصين شرقاً، وكذلك كنت أظن ان الكتابة، خصوصاً الروائية، ما هي إلا تجليات للريف، وما طمأنني لهذا التصور ان النشأة الاولى لها مع رواية"زينب"وغيرها كانت في الريف، حتى أبناء المدن كتبوا تجاربهم الاولى عن الريف، يحيى حقي ابن شارع الميضة كتب عن الريف، وكذلك يوسف ادريس وطه حسين وغيرهم. مع أعمال نجيب محفوظ اكتشفت وصدمت بعالم المدينة، المدينة المتعددة الطبقات والتواريخ، المدينة التي أخلص لها وانتقل معها من مرحلة الى اخرى، ودخلها من كل الزوايا والاساليب والتقنيات، من يستطيع ان يفلت من شخصية"كمال عبد الجواد"بعذابات الروح والحيرة وسلطة الأب والدين والعشق الأول الى الشك في كل شيء. دائماً يحلو لي المقارنة بين جيل نجيب محفوظ وجيلنا، هو ابن السؤال عن الهوية المصرية والوطنية ومقاومة الاحتلال وثورة 1919 ، وابن التعددية والاستنارة ومساءلة كل الثوابت، وابن زمن ام كلثوم وطه حسين وسيد درويش ومصطفى عبدالرازق، ومعه ظهر ما يسمى"الأدب المصري"وبدأ البحث عن خصوصية له داخل الأدب العربي، وتأسس له كرسي في الجامعة المصرية تولاه أحمد أمين وغيره، بينما نحن أبناء هزيمة هذا المشروع، وانتاجنا كتابة أزمة، نحن أبناء وجهة النظر الواحدة ومصادرة التعددية والزعيم الملهم الفرد الذي ينوب عن الأمة، نجيب محفوظ زعيمه سعد زغلول، ونحن زعيمنا العسكري الذي جعل الكل في واحد، لذلك فإن مشروع نجيب محفوظ يقوم على اليقين والإيمان بالثنائيات، بينما كتاباتنا تقوم على الشك في كل شيء.