منذ عشر سنوات على وجه التحديد، أذكر أنني كنت والمرحوم غالي شكري، طيّب الله ثراه وذكراه، نسير في ميدان التحرير في القاهرة. لا أذكر المناسبة على وجه التحديد، ولكننا كنا نهيم في شوارع القاهرة العجوز، فانتهى بنا المطاف إلى ميدان التحرير. وهناك، قابلنا من أخبرنا بأن وكالات الأنباء العالمية أذاعت منذ لحظات نبأ فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل العالمية. ولا أستطيع أن أصف الفرحة التي انتابتني وغالي شكري، هلّل غالي في الميدان الكبير، وقفز قفزات راقصة، وفعلت مثله، وسرعان ما اكتشفنا أن آخرين مثلنا ينتمون إلى قبيلة المثقفين يفعلون مثلنا، فقد كان للخبر وقع بهيج في زمن تضاءلت فيه الفرحة إلى درجة كبيرة. وانطلقت وغالي نسير في الطرقات كالمجانين من الفرح. ولكن جنون الفرحة لم ينسنا الاتصال بمجموعة من الأصدقاء، اتفقنا معهم على أن نلتقي في مكتب الصديق فاروق خورشيد في باب اللوق، والاحتفال هناك بحصول أول كاتب عربي على هذه الجائزة التي شُرِّفت، أخيرا، بالإبداع العربي ممثلاً في نجيب محفوظ. وأحسبنا اخترنا مكتب فاروق خورشيد لأنه كان قريبا من ميدان التحرير من ناحية، كما كان صاحبه، في ذلك الوقت، من الذين يصلون الغروب بالشروق، ولا تجده في النهار كثيراً، لكنه موجود دائما في الليل الذي يزيده يقظة وحيوية. واحتفلنا احتفالا ارتجاليا عفويا بهذه الجائزة حتى الصباح، ولم نبلغ نجيب محفوظ بذلك، لأننا لم نعتقد بأن فرحة الجائزة تخصه وحده، وإنما تخصنا نحن المثقفين العرب جميعا بالقدر نفسه. وجلسنا حتى الصباح نتذاكر ونتحدث، نختلف ونتفق، في تتابع لم يخل من الحماسة التي ارتفعت معها الأصوات واهتزت المشاعر وتعالت الصيحات. وما أكثر ما تحدثنا، في هذه الليلة، عن جائزة نوبل ومعناها وأهميتها وترابطاتها الفكرية والسياسية على السواء. والآن، بعد أن مرّ عقد كامل على هذا الحدث البهيج الذي وقع سنة 1988، وبعد أن دارت الأرض دورتها، وحملتنا الشواديف من هدأة النهر لتلقي بنا في جداول أرض الغرابة، كما يقول شعر الصديق العزيز أمل دنقل، ما الذي يمكن أن أقوله بعد سنوات عشر من هذا الحدث الدال؟ وما الذي جرى للرواية العربية؟ لم تكن الرواية العربية مجهولة قبل نوبل بالطبع، ولم تكن فنا بلا جذور في ميراثنا الحديث أو القديم، وإنما كانت حضورا حيا من الإبداع الذي تحوّل إلى "شعر الدنيا الحديثة"، الذي حقق الكثير، وذلك من قبل أن يستخدم نجيب محفوظ نفسه هذه العبارة في الرد على العقاد، في تأكيد قيمة الفن الروائي منذ أكثر من نصف قرن. باختصار، كانت الرواية العربية حققت الكثير على امتداد قرن من الزمان، وأنجزت ما ساعد نجيب محفوظ على الانطلاق في أفقها الواعد، الانطلاق الذي أغوى الأجيال المتتابعة بفتح ما ظل مغلقا من أفق الإبداع الروائي. ولكن تتويج هذه المسيرة بجائزة نوبل أمر يبرز مجموعة من الدلالات التي لا تزال تتكاثر إلى يومنا هذا. ويمكن أن أعدّد بعض هذه الدلالات على نحو عفوي كالتالي: أولاً: ترتب على الجائزة ازدهار حركة ترجمة الرواية العربية إلى اللغات العالمية على نحو غير مسبوق. كنا نسمع من قبل عن ترجمة هذه الرواية العربية أو تلك إلى هذه اللغة الأجنبية أو تلك. ولكن ذلك كان على سبيل الندرة، وفي الفرط بعد الفرط، كما يقول البلاغيون القدماء. أما بعد "نوبل" نجيب محفوظ، فقد أصبحنا نسمع ونرقب ونشاهد سيلا من الترجمات إلى اللغات العالمية الحية. وهو سيل صغير، إلى الآن، بالقطع، بدأ مع نجيب محفوظ ولم يتوقف عنده، فالأثر المدّوي الذي أحدثته "نوبل" نجيب محفوظ لم يقف عند رواياته وحدها، وإنما امتد منها إلى بقية الأجيال المصرية التي لحقت به وبقية الروائيين العرب الذين وازوه أو كتبوا معه أو كتبوا بعده. ويمكن أن نلاحظ تذبذباً في عمليات الترجمة، أو أن يتحدث البعض عن تراجعها في هذا الجانب أو ذاك، لكن المعدلات العامة لا تزال دالة في تصاعدها. ثانياً: ترتب على ازدهار حركة الترجمة ما يمكن أن نرى فيه دلالة موازية. أعني شيوع الرواية العربية في الخطاب الأدبي العالمي وتزايد حضورها الواعد في المشهد الإبداعي الشامل للكوكب الأرضي. ويكفي أن نتأمل الموسوعات الأدبية اليوم، حيث نجد للرواية العربية فيها موضعاً بعد أن لم يكن لها موضع ملموس أو محسوس من قبل. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فقد وصل شيوع الرواية العربية إلى الدرجة التي تحولت معها بعض روايات نجيب محفوظ إلى أفلام في أميركا اللاتينية. والمتخصصون في السينما يستطيعون أن يتحدثوا عن ذلك تفصيلاً. ثالثاً: لا يتوقف الأمر على هذا الجانب فحسب، إذ يكفي أن تدخل، الآن، أية مكتبة لبيع الكتب في العواصم الأوروبية المتعددة، أو الحواضر الأميركية، لتجد الرواية العربية المترجمة موجودة، بارزة، لافتة بتنوعها، تجمع ما بين الكتّاب الذكور بالقدر الذي تبرز كتابة المرأة إبرازا خاصا. ولا أزال أذكر ما كان عليه الحال من قبل عشر سنوات، عندما كنت أمرّ على أية مكتبة في أية عاصمة أوروبية أو غيرها، ولم أكن أجد بين أرفف الروايات رواية عربية واحدة، وكل ما كان يقال قبل ذلك عن ترجمة "أيام" طه حسين أو عن ترجمة بعض روايات محفوظ نفسها لم يكن ذا أثر ملموس على أرفف المكتبات الأوروبية. أما اليوم فالأمر مختلف إلى حد كبير له معناه. ومن هذا المعنى أنك لن تعدم من يحدّثك عن بعض الروايات العربية من أبناء هذه العواصم، أو تجد لها موضعا في مكتبته الخاصة. وأنا شخصيا لا أنسى ما شعرت به، منذ عامين، عندما كنت في أروقة مدينة بوسطن الأميركية، وعرجت على أكبر مكتبة لبيع الكتب فيها، فإذا بركن خاص بروايات نجيب محفوظ المترجمة. ومع هذه الروايات المترجمة كتيّب صغير عن نجيب محفوظ وأعماله. ولولا الأثر القرائي الذي أحدثه نجيب محفوظ في الأدب العربي المترجم بفضل نوبل ما كان للعالم المثقف اليوم، في عواصمه المتعددة المتباعدة، أن يتحدث عن كاتبات عربيات، ويضعهن موضعاً لا يقل عن مكانة غيرهن من كاتبات الدنيا المعاصرة. وقد وصلت بي الفرحة غايتها منذ عامين كذلك، حين كنت في زيارة لطبيب في مدينة كامبردج الأميركية، حين كنت أعمل أستاذا زائرا في جامعة هارفارد، فإذا بالطبيب يترك الفحص ويسألني عن نجيب محفوظ وروايته "أولاد حارتنا" تحديدا. وكان لهذا، بالذات، دلالات خاصة وعامة في ذهني. فها هو طبيب أميركي، ليس متخصصا في الأدب ولا مهتما به، يتحدث عن رواية لنجيب محفوظ ويناقش دلالاتها ورمزياتها المختلفة. رابعاً: إذا كان لجائزة نوبل هذا الأثر الذي لا يمكن أن ينكره أحد، سواء في دفع حركة الترجمة إلى طفرة غير مسبوقة أو الإسهام في شيوع الرواية العربية عالميا إلى أبعد مدى، فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي الدلالة التي تصلنا بما أصبح شائعا بيننا الآن، خصوصاً عندما نكرر الكلمة التي قالها علي الراعي ذات مرة عن أن الرواية أصبحت ديوان العرب المحدثين، أو حين نكرر العنوان الذي أطلقته مجلة "فصول" منذ سنوات عندما وصفت الزمن الذي نعيشه بأنه "زمن الرواية". وها نحن بالفعل نعيش زمن الرواية، ذلك الفن الأكثر قدرة على التقاط الخصائص النوعية لعصرنا المتوتر المعقد. ودليل ذلك ما نراه حولنا من التصاعد المتزايد لمعدلات الإبداع الروائي، وتنوع أجياله، وتعدد تياراته، وتباين آفاقه، الأمر الذي تردفه مؤشرات كمية وكيفية، مؤشرات تتصل أوائلها بتفوق الرواية على غيرها من أجناس الأدب وأنواعه في عمليات التوزيع وجذب المجموعات القرائية المختلفة، وتتصل أواخرها بالمدى الذي وصلت إليه الرواية في تجسيد المشكلات النوعية للعصر، وإبرازها لعيان القارئ العام وحدسه على كل مستوى، مجاوزة في ذلك مجال القراءة بين دفتي كتاب إلى مجال المشاهدة على شاشة التلفزيون أو السينما. وذلك في الوقت الذي يشتكي الناشرون من كساد سوق الشعر بالقياس إلى سوق الرواية. وأحسب أن ذلك كله أدى إلى أن يزداد الروائي العربي ثقة بنفسه، وثقة بما يكتب، وثقة بأنه قد أصبح له من تراثه القريب والبعيد ما يدفعه دفعا إلى الأمام نحو طريق المغامرة والتجريب، ومن ثم الإضافة إلى الميراث الذي يبدأ منه. وذلك أمر طبيعي، إذ لا يمكن لهذا الروائي إلا أن يبدأ من حيث ما يظل دوما في حاجة إلى الكشف. ولذلك تتابعت الأجيال بالقدر الذي تتابع ازدهار الرواية العربية وتلاحقت كشوفها وتباينت إنجازاتها وتنوعت تجاربها. خامساً: ولم يكن من قبيل المصادفة بعد أن طفرت الرواية العربية طفرتها هذه، وبعد أن شاعت وأصبح لها حضورها في العواصم العربية كلها، أن تمتد يد الغدر والإرهاب إلى عنق نجيب محفوظ، لأنه أصبح الرمز الساطع للاستنارة الإبداعية التي أصبحت الرواية طليعتها الجسورة، ولأن نجيب محفوظ برواياته أصبح الرمز المضيء للإبداع العربي الذي يؤكد مكانة العقل والاجتهاد والمغامرة الخلاقة والمساءلة الشجاعة، فضلا عن امتلاك القدرة على مطاردة خفافيش الظلام، ومن ثم تنوير أهل حارتنا تلك الحارة التي يصفها نجيب محفوظ في روايته الشهيرة بأن آفتها النسيان من الفقراء والمهمشين الذين استطاع أدب نجيب محفوظ التعبير عنهم والتقاط نبرة أصواتهم. وأضيف إلى ذلك تعليم أولاد هذه الحارة كيف ينبغي لهم أن يتذكروا ما يجب أن يفخروا به، وما يجب أن يؤكدوه في حياتهم من أنوار العقل والإبداع، ومن مغامرة الفكر إلى أبعد مدى من الحرية. ولذلك، لم يكن من قبيل المصادفة أن تمتد يد الإظلام والاتباع إلى رقبة نجيب محفوظ كي تجثث هذه الرقبة التي تضيء رأسها بالكتابة في العالم كله، والهدف هو ما قصدت إليه اليد الغادرة من إشاعة الإظلام والجهالة والتعصب واستبدال التخلف بالتقدم. ولكن الحمد لله، نجت الرقبة وبقي نجيب محفوظ منتسبا إلى تراث عظيم، أسهم هو في التأثير في أجياله المتتابعة، والمضي به إلى أفق المستقبل. تحية إلى نجيب محفوظ في عيد ميلاد نوبل العاشر، وتحية للكتّاب الذين سبقوه والذين أفاد منهم، وتحية للأجيال التي جاءت بعده، ومضت من حيث انتهى لتضيف إلى ما كتب، تأكيداً لحضور العقل العربي في حركته المتمردة، خصوصاً في تأبّيه على قوى الإظلام والتخلف والاتباع حلماً بالمستقبل الواعد الذي يستبدل بالضرورة الحرية وبالاتباع القديم الابتداع الجديد.