كثيرٌ من العرب يكره دولته. تسحقهم، تسرقهم، تحدّ من حريتهم وخياراتهم. الحرب الاخيرة على لبنان أجّجت هذه الكراهية، مثلما أيقظت احلاماً قومية. وصار الجهر بهذه الكراهية خبراً شبه يومي لأكثر العرب تصدّرا للمنابر والأقلام و"الجماهير". والشواهد لا تُحصى: أهمها ربما ما جاء في الخطاب الاخير للمرشد الأعلى ل"الإخوان المسلمين"المصريين:"لولا ان هؤلاء القادة رؤساء الدول موحّدون بالله لقتلناهم، لأنهم اشد خطراً على الأمة من الاسرائيليين". هذا امام الملأ وشاشات الفضائيات...! المهم ان العرب بدوا في هذه الحرب الاخيرة كارهين لدولهم، فيما اللبنانيون ينشدونها منذ اليوم الاول لمعاركها. اللبنانيون يا اخوان يحبون دولتهم، يشتاقون اليها، يحلمون بسيادتها على كامل التراب اللبناني. وهذه حال غالبيتهم منذ 1975، منذ اندلاع الجولات الاولى لحربهم الاهلية. بقوا يرجونها منذ ذاك الزمن، يأملون بعودتها، لعلّها بذلك تطفىء نار عداواتهم وقتذاك. ومن قرأ كتاب الشاعر اللبناني محمد العبد الله،"حبيبتي الدولة"، بكل ما يتضمن من تهكّم وحنان ورغبة بالإرتماء في احضان الدولة... من قرأ هذا الكتاب، ناله شيء من تلك الروح اللبنانية المعذبة، الموزّعة بين إنفلات غرائزها الطائفية وبين التوق للإنضواء تحت خيمة الدولة الواحدة. أليس من قبيل التراجيديا الوطنية ان يكرر المعنيّون بنزاعاتها المتكرّرة ان"لبنان وطن نهائي"؟. منذ 1975 كانت الدولة تخلّت عن جزء يسير من واجبتها، وكانت التوازنات الاقليمية قد أرغمتها منذ 1969 على توقيع اتفاقية القاهرة التي سمحت بانتشار السلاح الفلسطيني في المخيمات الفلسطينية في لبنان ووضعت بعض أراضيه خارج السلطة الفعلية للدولة. السنوات السوداء التي تلتْها شهدت ذروة شوق اللبنانيين الى دولتهم. ذروة الحاجة اليها. وعندما جاء السلم، كانت الوصاية السورية تُمْلي فرماناتها المناهضة للدولة، داخل المؤسسات وخارجها"تضمر تفتيتها وتخطب بالقوانين والدساتير. العام ونصف العام الاخير مما تلى الانسحاب السوري من لبنان ما كانا كافيين، على ما يبدو، لإرساء دعائم دولة حقيقية مستقلة وذات سيادة، وإن نسبية"فمن كان من بين الدول صاحب سيادة مطلقة، فليرمِ النسبية منها بالحجر! لكن في الحرب الاخيرة، مارسَ رجالات الدولة، ولأول مرة منذ عقود، ما توجب شرعيتهم الدستورية القيام به: إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوطن. فاوضوا بإسم لبنان مباشرة، ومن دون الوصي السوري. قاموا بذلك بمفردهم، وتحت شتى اصناف القيود والضغوط. ونجحوا، لأنهم بلغوا الممكن: القرار 1701. في نفس تلك الاثناء، كان"حزب الله"يرمي الصواريخ ويقاتل اسرائيل على ارض محروقة. ويحسب خراب الدولة والوطن فداء في سبيل النصر... فظهر بذلك نوعان من الزعامات: زعامة الدولة، وزعامة الحزب. واذا كان لا بد من وجوه تظهر من خلالها هاتان الزعامتان، فمن البديهي ان يكون فؤاد السنيورة الأول، وحسن نصر الله الثاني. السنيورة قاد المعركة السياسية بإقتدار ونزاهة ومسؤولية. وغرضه وقف آلة الموت والدمار. في السنيورة إيجابية تعقّل وانسانية. نقيض الذكورة التي ترى في جراح الغير عدلاً... وفي السنيورة كثير من لبنان. جامع كما لم يجمع اسلافه. جامع غير صَهريّ، وخط واحد ينطوي على تصوره للدولة: قانون واحد، سلاح واحد، سلطة واحدة. شفاف، ظاهر للعيان، في الهواء الطلق... وبتصوره هذا، يتعايش السنيورة مع حزب يناقض وجوده، في أخطر التفاصيل، في أدق المراحل... حزب من داخل حرمته الدستورية! ووجه آخر: حسن نصر الله. نصر الله القائد المتجهّم للمعركة العسكرية. ينذرنا بمزيد من الخراب والموت. الذكورة والفحولة وقيادة"أمة"غير معروف تماما حدودها، كما هو غير معروف المكان العميق الذي يخاطبنا منه... ذكورة يدعمها الحليف السوري الذي يصف من لا يسعفونه في"مقاومته"ب"أنصاف الرجال". شيء من الشمشونية كان ينضح من هذا الوجه، من القسوة تجاه اشياء الحياة، من الغموض والسرية. عكس الممكن، عكس الدولة، يبدو قائد الحزب موغلاً في المجهول. فرق أساسي بين الممكن والمجهول! الدولة لها الآن ثلاثة اغراض محدّدة: وحدة وطنية، إعادة اعمار، تثبيت الهدنة مع اسرائيل. اي الممكن ايضاً."الحزب"ايضا غرضه اعادة الاعمار. إعمار ما يخصه ويخص حساباته. اما غرضه الثاني، فمجهول حتى الآن: مسؤول"الحزب"في الجنوب، الشيخ نبيل قاووق، وأثناء تشييع ضحايا قانا، رحب بالجيش اللبناني البادىء بإنتشاره في الجنوب قائلا:"قبل العدوان وبعده لن يكون للحزب اي وجود مسلح مكشوف". ما يشبه القول: أهلا بالدولة في الجنوب... ونحن نبقى حيث كنا. ثم يعود نفس هذا الحزب فيندهش من"خروقات"العدو لوقف القتال، من تردّد القوات الدولية، من تهديد وزير الداخلية اللبناني بخطوات صارمة ضد كل من يطلق النار على اسرائيل... اذا كان التنافس بين الدولة والحزب على اعادة الاعمار يطرح قضايا شائكة، فهي على الاقل تبقى ضمن نطاق الاشكاليات السلمية البعيدة عن اطلاق الرصاص. اما مسألة الهدنة التي تسعى اليها الدولة حثيثة، ويعرضها"حزب الله"للخطر بسبب نزع السلاح او ابقائه او اعادة التسلح من جديد، وكل ما هنالك من عبارات المغمغة والمراوغة بين الشرعية واللاشرعية، فهذه مسألة تهدد لبنان بأسره، ويجدر بنا تفكيك ألغامها المفجرة. ولا اطار يحسمها حسما نظيفا غير الدولة. ورهان الدولة هنا هو رهان قوتها، قوة الفعل والمبادرة. لا نريد دولة ضعيفة امام حزب مسلح قوي. مهما كانت قداسة قضيته. نريد دولة قوية واحدة، الاطار الوحيد الذي يجمعنا كلنا، مع كل عيوب انقساماتها الطائفية السخيفة ومع كل عيوبها التاريخية والانسانية. لكن بغية ذلك، علينا التخلص من مزجنا الفادح بين دولتنا المحبوبة ونظامها المعطوب. وايضا بين لبنان وبين معضلات الامم الاخرى... لبنان أولاً!