تتوقف عقارب ساعة السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر بين غد الاثنين وبعد غد الثلثاء، مع انتهاء العمل بأحكام ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وسط تصاعد الجدل بين أنصار"التمديد"والمطالبين بإغلاق"باب التوبة"أمام المسلحين. وبرزت خلال الأشهر الستة التي أقرها ميثاق السلم والمصالحة مشكلات جدية حالت دون عودة ناشطي"جبهة الإنقاذ"من الخارج أو المسلحين في الجبال، وهي قضية"الضمانات"التي دفعت حسان حطاب، أمير ومؤسس"الجماعة السلفية"، إلى التراجع عن قرار سابق بتزكية ذلك الميثاق. بدأت قوات الجيش الجزائري عمليات عسكرية واسعة ضد معاقل الجماعات الإسلامية المسلحة في مناطق وسط وشرق الجزائر في محاولة للضغط على التنظيمات الرافضة لمسعى السلم والمصالحة الوطنية. وذكرت مصادر أمنية جزائرية لپ"الحياة"أن هذه العمليات، التي ستتكثف خلال الأيام القليلة المقبلة، تهدف إلى"الضغط على الناشطين الذين يرفضون المسعى الرئاسي". وأضافت أن"السلطات ستتعامل بصرامة مع الذين يرفضون مسعى السلم والمصالحة الوطنية". وبدأت السلطات حرباً نفسية"ضد المسلحين ومعاونيهم، وذهبت إلى حد تأكيد احتمال اغلاق شبكات الهاتف الجوّال لعزلهم في المناطق الجبلية. وقالت اشاعات أيضاً إن السلطات ستعمد إلى قطع الكهرباء وعزل المناطق الجبلية بالكامل من أجل استعمال أسلحة"محظورة دوليا"، في خطوة تعزز الضغط النفسي لدفع المسلحين أو ذويهم إلى مراجعة مواقفهم خلال الساعات الأخيرة قبل إغلاق"باب الرحمة"في 28 آب أغسطس الجاري. وقال وزير الداخلية الجزائري يزيد زرهوني إن مسعى السلم والمصالحة الوطنية حقق"نتائج إيجابية". وكشف أن" بين250 و 300 مسلح سلموا أنفسهم بسلاحهم إلى السلطات المختصة للاستفادة من تدابير ميثاق السلم والمصالحة"، إضافة إلى تسلم ملفات 45 ألف شخص تعرضوا إلى أضرار بسبب تصاعد أعمال العنف منذ مطلع العام 1992. وكانت تقديرات رسمية أشارت بداية العام إلى أن عدد المسلحين المطلوبين لدى القضاء بلغ نحو 1000 مسلح بينما أفادت معلومات أمنية بأن"عدد المطلوبين في جرائم إرهاب لا يتجاوز 1350 مسلحاً". ويبدو أن هذه الحصيلة هي وراء انقسام المواقف بشأن جدوى تمديد المهلة لأعضاء الجماعات المسلحة للاستفادة من تدابير ميثاق السلم، أو الاكتفاء بالإجراءات القانونية الحالية التي ينتهي العمل بها رسميا غداً الاثنين لتنقضي بعده مهلة الستة أشهر التي منحت للمسلحين للاستفادة من العفو الرئاسي. ويخوض، معركة تمديد المهلة، عدد كبير من المحامين، الذين يطالبون بالتمديد لتمكين القضاء في مختلف الولايات من الفصل في ملفات موكليهم المسجونين من سنوات ولم يستفيدوا من تدابير السلم والمصالحة الوطنية بسبب عجز المحاكم عن معالجة ملفاتهم في ستة أشهر فقط. واعترف وزير العدل الجزائري الطيب بلعيز بصعوبة الفصل في كل القضايا التي رفعت منذ بداية العمل بميثاق السلم والمصالحة الوطنية في نهاية شهر شباط فبراير الماضي، مؤكداً أن عدد الملفات الباقية"لا يتجاوز 500 ملف". وأشار إلى أن اللجنة الوطنية المكلفة بتطبيق إجراءات الميثاق عاكفة على دراسة الملفات المتبقية"حالة بحالة لفئات الدعوى العمومية والعفو واستبدال العقوبة". ودعت بعض القوى السياسية إلى اعتماد القوة و"الضرب بيد من حديد"تجاه من يرفضون عرض العفو. وقال وزير الداخلية يزيد زرهوني خلال زيارة للمبنى المركزي للأمن الوطني قبل أيام إن"سياسة مكافحة الإرهاب ستتواصل حتى بعد انتهاء أجل تطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية". ووجه نداء إلى"كل الأشخاص الذين لم يسلموا أنفسهم بعد ليغتنموا الفرصة التي تتيحها لهم أحكام الميثاق"... والا سنقاتلهم بكل الوسائل". في المقابل يتمسك عدد من المسؤولين والسياسيين بضرورة تبني خيار"السلم والمصالحة"حتى بعد انتهاء الآجال القانونية. ودعا رئيس الحكومة الجزائرية عبد العزيز بلخادم، وهو أيضا الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، إلى إعطاء"أمل"للمسلحين في إمكان الاستفادة من تدابير الميثاق مستقبلاً. وأوضح في لقاء مع قيادات الحزب في ولاية بجاية 300 كلم شرق أن"السلم والمصالحة لا يرتبطان بأجل أو مكان"، مشيراً إلى أن"المصالحة لا تقصي أحداً، إلا من أقصى نفسه أو أقصته مواد الميثاق". وبحسب بلخادم فانه"من غير المعقول، ونحن ننادي باستتباب الأمن والسلم الاجتماعيين، أن نقصي أيا من المسلحين الذين يبدون النية في التوبة بعد انتهاء المهلة، بحجة أن الأبواب أغلقت". لكن رئيس الحزب الإسلامي"حركة مجتمع السلم"العضو في الائتلاف الرئاسي الشيخ أبو جرة سلطاني اعترض على هذا المسعى وقال إن حزبه"يعارض تمديد الآجال من دون إيصاد باب الرحمة". وجاءت هذه التصريحات المتناقضة بعد أقل من أسبوع على النداء الذي أطلقته أحزاب"التحالف الرئاسي"الذي يدعم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى"وجوب احترام الآجال القانونية المحددة في النصوص المتضمنة تنفيذ ميثاق السلم والمصالحة الوطنية". وجاء ذلك في بيان وقعه قادة التحالف الذي يضم مجتمع السلم، وجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي بزعامة رئيس الحكومة السابق أحمد أويحي. وعلى المستوى الرسمي، تواجه الوزارات المكلفة متابعة الملفات التي تخص المسلحين في الجبال أو السجون، هي أيضاً، مواقف متباينة. وزير العدل الجزائري الطيب بلعيز نفى في تصريحات رسمية،"وجود أي استعداد لتمديد المدة المحددة في الميثاق". وأضاف أن"الشعب كان رحيما و غفورا إلى ابعد درجات". لكن وزير الداخلية يزيد زرهوني المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الجماعات الإسلامية المسلحة، رفض الحسم في تمديد الآجال القانونية للميثاق، مفضلاً أن يتولى الرئيس الجزائري نفسه تقدير الحالات، باعتباره صاحب الاختصاص في مثل هذه القضايا المصيرية. وللمرة الأولى منذ سنوات، تتحول قضية"التمديد"إلى مسألة تهم أيضاً تنظيمات حقوق الإنسان وقطاعاً واسعاً من المحامين الذين وجدوا أنفسهم في أوضاع صعبة بسبب"غموض"نصوص القانون، لا سيما المتعلق منها بالمتهمين بالمشاركة في تنظيمات مسلحة في الخارج، أو ما يسمى"الإرهاب الدولي". وكان أفرج عن الكثير منهم في إطار تدابير انقضاء الملاحقات القضائية قبل أن تقرر السلطات إعادة توقيفهم، بحجة"أخطاء قضائية"في قراءة قانون السلم كما قال وزير العدل. ورأى عدد من المحامين أن في إمكان الرئيس بوتفليقة انتهاز العرض الذي يوفره ميثاق السلم من أجل"طي الصفحة بشكل نهائي من خلال التمديد والنظر بجدية في العراقيل التي أثبتتها الأشهر الستة المشار إليها في نص الميثاق". واعتبرت المحامية فاطمة بن براهم أن إغلاق باب المصالحة ضمن المهلة التي حددها الميثاق"سيخلق نوعاً جديداً من الخطر الذي يهدد البلاد"، وبررت المطالب بتمديد الآجال القانونية إلى"عدم تمكيننا من الاطلاع على ملفات بعض المحكومين". وأضافت:"هناك الآن من لا يزال في السجن ويجهل إن كان مستفيداً من المصالحة أم لا، وفي الحالة الثانية يمكننا التدخل بالطعن أو بإجراءات مناسبة، وكل هذا لا يحدث". لكن هذه المبررات لا تجد صدى في أوساط الناشطين في مجال حقوق الإنسان، ومنهم رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان بوجمعة غشير الذي انتقد بشدة مواقف الأوساط التي تدعو إلى تمديد مهلة المصالحة الوطنية، واصفاً هذا التوجه ب"غير المنطقي، لا قانونا ولا أخلاقا، باعتبار أن الإرهابيين المعنيين يرفضون تدابير المصالحة والعودة إلى المجتمع والتوبة". تشدد وميدانياً تسارعت التطورات بين صفوف الجماعات الإسلامية المسلحة بإتجاه المزيد من التشدد حيال مبادرة السلطات، بعد إعلان حسان حطاب أبو حمزة، أمير ومؤسس"الجماعة السلفية للدعوة والقتال"عن موقف مفاجئ قرر فيه"سحب تزكية ميثاق المصالحة"الذي كان قد دعمه الخريف الماضي. ورأى"أبو حمزة"في بيان نشرته صحف جزائرية، وأكده مصدر مقرب من حطاب ل"الحياة"، أن"النظام الحالي لا يختلف عن سابقه في إخلاف الوعد والمخادعة والمخاتلة وعقد الصفقات المشبوهة وازدواجية المعايير". واتهم السلطات ب"التردد في إنجاح مسعى المصالحة"، مشيرا إلى أن الجماعة السلفية"ترى أن هذا المشروع لا يكرس إلا الحقد والتفرقة والكراهية بين الجزائريين". ودان حطاب مواقف الحكم وقال إنه"لن يقع في مكر النظام وخداعه ولن ينخدع في سياسة الاستدراج والانفراد للأطراف والصفقات المشبوهة وشراء الذمم"، مشيرا إلى أن الجماعة السلفية للدعوة والقتال أصدرت بيانها الذي يقول"إنه إذا تمت المعالم الكبرى لهذا العفو من جميع جوانبه فستدلي الجماعة برأيها قبولا أو رفضا أو وصولا إلى حل وسط، وبعدما تمت الخطوط العريضة لميثاق السلم والمصالحة فإن الجماعة السلفية ترى أن هذا الميثاق خدعة كسابقاتها". وشبه حطاب أحكام الميثاق بالخطة التي"تفرق بين الجزائريين وتجعلهم طبقات، طبقة مدافعة عن الجمهورية وطبقة إرهابية، وهذه العنصرية بعينها". ولفت إلى أن قيادة التنظيم المسلح، الذي يقول إنه لا يزال يتزعمه رغم تنحيه عن الإمارة في أب أغسطس 2003،"لن تتجرع علقم الخيانة التي ذاقها سابقها من الجماعات". وأعلن رفضه المشروع و"مواصلة النضال والكفاح بالطرق المشروعة لاسترداد حقوق الشعب المهضومة وإنصاف المظلومين". وإن كان عدد الناشطين المستعدين للتخلي نهائياً عن العمل المسلح غير معروف، فإنه وفي المقابل، لا يعرف مدى تأثير هذا البيان على الراغبين في التخلي عن العمل المسلح قبل انقضاء الآجال القانونية. وباستثناء"أبو حمزة"ومن معه من نشطاء"الجماعة السلفية"الذين كانت السلطات تراهن عليهم لدعم مسعى السلم والمصالحة، لا تزال غالبية قيادات"الجماعة السلفية"تعلن صراحة رفضها لهذا المسعى وكان أبو مصعب عبد الودود وإسمه الحقيقي عبد المالك دردقال أصدر سلسلة بيانات عبر فيها عن موقف التنظيم المسلح الرافض لمبادرة السلطات. تلغيم الطرق لمواجهة"الحرب النفسية" وبعد فترة هدوء دامت ستة أشهر عزل خلالها المسلحون عن عائلاتهم تجنباً لأي تأثر بخطة السلطات، بدأت الأوساط المتابعة للشأن الأمني الجزائري تسجل في الفترة الأخيرة نشاط خلايا مسلحة في بعض المدن الكبرى. وإن كانت غالبية الاعتداءات هي تلغيم الطرق أو الشواطئ، فإن تحركات التنظيم المسلح أثارت رد فعل سريع لدى الجهات الأمنية التي بادرت إلى شن سلسلة عمليات"محاصرة"لشل نشاطه أو الضغط عليه وتجنب تردي الاوضاع الأمنية قبل شهر رمضان الذي يعتبر فترة نشاط"الجماعة السلفية". وإذا كانت التطورات الميدانية لا تبعث على التفاؤل رغم الأرقام"الإيجابية"التي أعلن عنها وزير الداخلية وتحدث فيها عن استسلام 300 مسلح منذ نهاية شباط فبراير الماضي، فإن التحركات العسكرية و"الحرب النفسية"ضد الجماعات المسلحة تبعث على الاعتقاد بأن السلطات مصممة على إدارة أكثر تشدداً. وينظر كثيرون الى الرئيس بوتفليقة ك"صمام أمان"لخطة السلم والمصالحة من خلال احتفاظه بحق قانوني تضمنته الفقرة الأخيرة من الميثاق، وفيها:"يمكن أن يتخذ رئيس الجمهورية في أي وقت كل الإجراءات الأخرى اللازمة لتنفيذ ميثاق السلم والمصالحة الوطنية". ويقول محللون إنه وبموازاة السياسة الامنية، ستواصل الأجهزة وخصوصاً الاستخبارات العسكرية الاتصال بتلك الجماعات عبر"التائبين"أو عائلاتهم لاقناعهم بضرورة التخلي عن النشاط المسلح ولا سيما أن الرئيس بوتفليقة جدد موقفه بأن"المصالحة لا تستثني إلا أولئك الذين خانوا الأمة وارتكبوا جرائم لا تغتفر ولا يسري عليها التقادم". لكن هذه التعهدات تبقى بحسب الكثيرين بحاجة إلى"ضمانات". فقد صرح"رابح كبير"وهو أحد أبرز قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، في الخارج، بأنه كان سيعود إلى الجزائر قبل نهاية شهر تموز يوليو الماضي لكنه أرجأ في أخر لحظة قراره"لأسباب إدارية"رفض توضيحها. كما أن العديد من قيادات الحزب المحظورة في الخارج ترفض العودة إلى الجزائر"ما لم تتوافر ضمانات"بعدم ملاحقتهم أو التضييق عليهم خصوصاً بعدما أوقفت السلطات عدداً من المحسوبين على الإنقاذ بمجرد عودتهم إلى الجزائر للاستفادة من تدابير ميثاق السلم والمصالحة، وحولت ملفاتهم إلى"الحق العام"في قضايا هي في الأصل، بحسب فريق كبير من المحامين،"تخص الإرهاب والأزمة الوطنية".