كان مشهد السيارات والدراجات التي يلوح راكبوها بأعلام النصر في شوارع بيروت مبهجاً. ثمة اعتراضات كثيرة قد يسوقها المراقب اللبناني على سلوك"حزب الله"عموماً في السياسة والأمن والتحالفات. لكن مشهد المحتفلين بالصمود الذي حققه مقاتلو الحزب في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، كان مبهجاً ومطمئناً. ذلك ان البديل الذي كان ممكناً عن هذه الاحتفالية لم يكن اقل من انكسار نفسي واجتماعي وعسكري في بيروت. لو ان مقاتلي"حزب الله"لم يصمدوا في مواجهة هذه الآلة الحربية لكان يصعب ان يرى المرء في لبنان مبتهجاً واحداً. لا يدخل هذا التوصيف في باب التهنئة بالانتصار، فالأكلاف التي دفعها لبنان شعباً ودولة تكاد تعصى على الإصلاح والتعويض. ولا يشكل هذا الارتياح لحصول هذه الاحتفالات دخولاً متعجلاً في امتشاق نظريات تتعلق بهزيمة اسرائيل النهائية التي لا قيامة لها بعدها، على جاري عادة الرئيس الإيراني في التصريح والقول. فما زالت الموازين على حالها لم يطرأ عليها تغير يذكر. وما زالت اسرائيل تملك طاقة تدميرية هائلة لا يستطيع لبنان ولا غيره الصمود في وجهها. لكن النتيجة كانت مرضية لبنانيا، على رغم الاكلاف الهائلة التي دفعها الشعب اللبناني من مستقبله الاقتصادي والمواطني على حد سواء ومن استقرار ابنائه على سمت المواطنية التي تشترط اطمئنان المواطن إلى حماية الدولة له في رزقه وحياته وحياة عياله. وعلى رغم الخسائر في الارواح التي لا تعوض وشبكات العلاقات الاجتماعية التي دمرت ومسحت عن وجه الأرض، إلى الأكلاف الهائلة المباشرة وغير المباشرة التي وضعت على كاهل المواطن اللبناني ودولته الهشة والمثقلة بالديون. وفق هذه المقاييس الآنف ذكرها لا يجد المرء مبرراً للاحتفال بالنصر ولا بالصمود. لكن مقاييس لبنان في موضوع النصر والهزيمة يجب ان تقرأ من زاوية أخرى غير تلك التي تقرأ من خلالها الانتصارات والهزائم على وجه الإجمال. يقرأ الارتياح والاستبشار بهذه الاحتفالات من زاوية طبيعة الحرب التي خيضت من الجانب الإسرائيلي والدولي. ففي هذا السياق كان معلوماً ان اسرائيل تخوض الحرب في الميدان اللبناني ضد ايران وسورية وضد احتمالات حرب فلسطينية - اسرائيلية مقبلة او حتى حرب عربية - اسرائيلية مقبلة. كان لبنان في اصل الخطة الإسرائيلية ميداناً سهلاً للتمثيل بجثته بهدف تخويف الآخرين، من سورية إلى ايران وصولا إلى سائر الدول العربية. وفي هذا المعنى، ورغم الاكلاف التي دفعها اللبنانيون فإن ما اثبتته هذه الحرب ان اللحمة اللبنانية في مواجهة اسرائيل لا يمكن فكها بالسهولة التي يتصورها البعض، وان هذا البلد على رغم حجم الدمار الذي يصيبه يستطيع ان يؤذي خصمه وان يجعله يتردد كثيراً قبل ان يقرر استعماله كصندوق بريد. يبدو هذا الصمود الذي حققه لبنان واضح التأثير في الجهة الإسرائيلية من الحدود اللبنانية، مما يجعل تكرار مثل هذه المغامرة اسرائيلياًً امراً تحف به المخاطر من كل حدب وصوب. لكن المقلب الآخر لهذه الحرب والمخاطر التي تنطوي عليها على مستوى لبنان عموماً تتصل اتصالاً وثيقاً بجيران لبنان الآخرين. في 15 آب اغسطس فتح الرئيس بشار الأسد باب المخاطر على مصراعيه. واثبت في خطابه ان اتباع نصائحه والوثوق بتحليلاته قد يكون اقصر الطرق لجعل هذا الصمود الذي حققه اللبنانيون من دون معنى على الإطلاق. فحين يفترض الرئيس الأسد ان استكمال النصر لا يتحقق إلا بهزيمة من سماهم فريق 17 ايار في لبنان يكون كمن يفتح الباب واسعاً امام اللبنانيين على جعل ارضهم وسمائهم وبحرهم نهباً لكل من يملك طائرة حربية او سفينة مدمرة. الرئيس الأسد يريد من هذه الحرب ان تختم فصولها على هزيمة لبنانية صافية. الامر لا يتعلق فقط بالتحريض على حرب اهلية بين اللبنانيين. بل يصل إلى مستوى الدعوة إلى تقاسم احتلال البلد بين سورية واسرائيل على نحو صريح. وليس من مستغرب القول ان الدخول في مغامرة من هذا النوع على المستوى الداخلي تعادل استباحة اسرائيلية لأجواء الجنوب اللبناني وبحره، مما يحوَل الجنوب ميدان معارك وجبهة اخذ ورد بين ايران وسورية من جهة واسرائيل من جهة ثانية. يعرف اللبنانيون جميعاً و"حزب الله"في مقدمهم ان الجهد الديبلوماسي الذي بذلته الحكومة اللبنانية مدعومة من رئيس المجلس النيابي اللبناني والذي ادى إلى تزايد الضغوط على اسرائيل من اجل تحييد بعض المناطق اللبنانية من القصف شكل سبباً اساسياً وحاسماً في تمكين اللبنانيين من العودة إلى قراهم على النحو الذي تمت به هذه العودة. فلو ان استباحة اسرائيلية حصلت لبيروت وجبل لبنان في هذه الحرب لكنا امام مشهد من النزوح لا يقل هولاً عن مشهد العام 1948 ان لم يكن يفوقه اضعافاً مضاعفة. ولكننا اليوم نجهد بكل ما أوتينا من جهد وقوة لنعيد بعض النازحين إلى مدنهم وقراهم من الدول التي هجروا إليها في الجوار وفي ما يقع خارج الحدود. الرئيس بشار الأسد في هذا المعنى وهو يشدد على استكمال النصر العسكري الذي حققه"حزب الله"بانتصار سياسي يريد ان يجعل لبنان ميداناً لمعركة ضارية ترد غائلة الهجوم على دمشق نفسها وتجعل من البلد الذي احتضن بعضه بعضاَ وعض على جروحه البليغة بالصبر والكتمان اثراً بعد عين. ينتصر لبنان في هذه المعركة إذا نجح في ان يجعل بلاده بلاداً لا مجرد صندوق بريد يرسل عبره المتحاربون رسائلهم. والرسائل ليست اسرائيلية فقط، وينبغي ان نرفض استقبال الرسائل من الجانبين. ينبغي ان يذكّر اللبنانيون الجميع ان الدم لبناني وقيادة المقاومة لبنانية وقيادة الديبلوماسية لبنانية والصمود لبناني وانه لا يحق لأحد ان يدعي ابوة هذا النصر. فحين يسلم اللبنانيون هذا النصر لأي كان من خارج الحدود يصبح النصر هزيمة والصمود انتحاراً. * كاتب لبناني