أرجو ألا ينسينا لبنانالعراق. لبنان مرّ بشهر عاصف قتل فيه من أبنائه حوالى 1400 أكثرهم من النساء والاطفال، وشرد مليون مواطن، ودمر مئة ألف مسكن، وهو يواجه فاتورة تعمير بحوالى سبعة بلايين دولار تضاف الى ما يرزح تحته من ديون. هذا في شهر، غير أن العراق يمر بمثل ما مر به لبنان منذ ثلاث سنوات ونصف سنة، وهو بلدنا مثل لبنان اذا كنا كما ندعي مواطنين عرباً. كنت أرزح تحت الكذب الأميركي، الرسمي والليكودي، الكديمي من عصابة اسرائيل، عندما لفت نظري مقال كتبه توم هايدن في مجلة"ذي نيشن"كان عنوانه"العراق يموت"وامتلأ بتفاصيل نعرف أكثرها عن مصيبة العراق بالاحتلال الأميركي. لا يحسم مقال واحد جدلاً، غير أنني كنت انتهيت لتوي من تسجيل ملاحظات سريعة على جدل أميركي - أميركي، فالجنرال جون ابي زيد، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط حذر من أن العراق ينزلق نحو حرب أهلية، وردت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بعد يومين بالاصرار على أن العراق لا يتجه نحو حرب أهلية، مخالفة بذلك رأي ابي زيد وجنرالات آخرين، وأيضاً رأي اعضاء في مجلس الشيوخ مثل تشك هاغل وكريس دود. العراق فعلاً لا يتجه نحو حرب أهلية لأنه وسط هذه الحرب منذ أسابيع وشهور، وكل من يزعم غير هذا ينكر وجود مشكلة، أو مأساة، وبالتالي يؤخر طلب العلاج. وبما أن الارقام لا تكذب، كما يقولون، فإننا نحتكم اليها وهي تقول أن عدد الضحايا المدنيين في العراق الشهر الماضي بلغ 3438 شخصاً، أي ما يزيد مرتين على ما خسر اللبنانيون والفلسطينيون في الفترة نفسها. ورقم تموز يوليو يزيد تسعة في المئة على رقم الشهر السابق، وهو حوالى ضعفي رقم كانون الثاني يناير. أحمّل الادارة الأميركية المسؤولية كاملة عن تدمير العراق، وقتل مئة الف من مواطنيه، ولا يكفي أن يقال أن الادارة خدعت، فهي مسؤولة بتسليمها السياسة الخارجية لعصابة اسرائيلية متطرفة تسعى الى تخريب الشرق الأوسط كله لحساب اسرائيل، وقد رأينا في لبنان نموذجاً آخر، وربما نرى غداً حروباً تطاول سورية وايران وآخرين. وأحمل العراقيين مع الادارة الاميركية مسؤولية موازية عن تدمير بلدهم، فالحرب الأهلية عار على كل عراقي يعتقد بأن عدوه يعرف الفرق بين سنّي وشيعي، أو عربي وكردي، فالكل عرب ومسلمون، وكلهم مستهدف، والنتيجة اننا أمام وضع كارثي، اعترف بأنني لم أكن اتوقع حجمه، لأنني لم أتصور في حياتي أن يقوم وضع في العراق اسوأ من نظام صدام حسين. الوضع في العراق ليس سيئاً وحسب. بل مأساة انسانية متفاقمة. هناك أخبار، اكثرها أميركي، عن اساءة معاملة السجناء، ومنظمة مراقبة حقوق الانسان اتهمت العسكريين باعطاء أوامر بالتعذيب خلافاً لمواثيق جنيف، وثمة أخبار عن أوامر بالقتل، والصحافي الأميركي البارز توماس ريكس، في كتابة"فشل أو فوضى: العسكر الأميركي في العراق"يقدم تفاصيل مخيفة لم ينفها أحد منذ صدور الكتاب قبل شهرين. وقد تحدث محامون عسكريون عن التعذيب في غوانتانامو، والمحكمة العليا الأميركية وقفت ضد الادارة ومنعت محاكمة المعتقلين أمام لجان عسكرية خاصة. والرمادي وحديثة وسامراء والفلوجة أصبحت رموزاً للقتل العشوائي الأميركي، واستخدام اسلحة ممنوعة، أو قتل امرأتين، أحداهما حامل، على حاجز أميركي في حادث يتكرر كل يوم، وفي حين اعتبر اغتصاب فتاة عراقية وقتل أهلها جريمة فردية يسأل عنها مَن ارتكبها، فإن أمامي مقالاً أميركياً عنوانه"حكم الرعب الأميركي في العراق"يقول أن دم الضحايا العراقيين على"أيدينا"ويقصد الأميركيين مثله. واذا عاد القارئ الى عدد 27/2/2006 من مجلة"نيويوركر"سيجد أن هناك أميركيين طيبين كثيرين حاولوا منع تعذيب السجناء، وتفاصيل عن الرؤساء العسكريين والمدنيين الذين أحبطوا جهدهم. والسوس نخر أصول الشجرة، فالفساد المقيم في بلادنا أصاب الأميركيين، وهناك تحقيقات رسمية أميركية عدة عن اهدار بلايين الدولارات من أموال المساعدة الأميركية والأموال العراقية. وقد تحرك الجيش الأميركي بعد ثلاث سنوات ليمنع منح شركة هاليبرتون، أي شركة ديك تشيني قبل أن يصبح نائباً للرئيس، عقوداً من دون عطاءات ومنافسة. ولا أتوقع خيراً أو انفراجاً فالكذب مستمر، وهناك حرب أهلية تطحن العراقيين كل يوم، ثم اسمع عن الرئيس بوش عجباً. "نيويورك تايمز"نشرت قبل يومين خبراً عن غداء في البنتاغون حضره الرئيس بوش وأبدى فيه استياءه لأن الحكومة العراقية والشعب العراقي لا يؤيدان المهمة الأميركية في العراق بحماسة أكبر. وقال مشاركون في الغداء أن الرئيس بدا محبطاً لأن العراقيين لا يقدرون تضحيات الولاياتالمتحدة في العراق، ومحتاراًَ لتنظيم تظاهرة كبيرة في وسط بغداد تأييداً لحزب الله. هنا سر المأساة كلها، وأنا وكل عراقي وعربي نشكر الولاياتالمتحدة على اطاحة صدام حسين، إلا أننا لا نشكرها على شيء بعد ذلك، فالعراق يدمر واهله يقتلون كل يوم، والرئيس الأميركي يريد من العراقيين أن يشكروه. كيف يخرج العراق من ليله الطويل والرئيس بوش لا يعرف أن العراق يدمر وأن شباباً أميركيين يقتلون فداء لاسرائيل وان"حزب الله"في العراق يتمتع بتأييد غالبية كبيرة من الشعب، بمن فيه رئيس الوزراء نوري المالكي الذي رفض باصرار ادانة"حزب الله"خلال زيارته الولاياتالمتحدة أخيراً. هذا الليل الطويل سيستمر.