يؤكد الشاعر الأردني زياد العناني مع كل مجموعة جديدة حضوره في إطار القصيدة العربية الحديثة بوجه عام وقصيدة النثر على وجه الخصوص. فمنذ مجموعته"خزانة الأسف"وحتى"مرضى بطول البال"وپ"تسمية الدموع"تتبين أكثر فأكثر موهبة العناني الباحثة عن تحققها عبر مقاربات جريئة للغة والمعنى. ولقد عرف هذا الشاعر الأربعيني كيف يخدم قصيدته جيداً عن طريق الإصغاء للحياة وأحوال الجسد والروح والطبيعة الإنسانية من جهة وعن طريق الإخلاص للشعر والإنقطاع له ودفع أكلافه الشاقة من جهة أخرى. والحقيقة أنني منذ استمعت الى قصائد زياد المبكرة في أحد مهرجانات جرش تلمست فرادة لغته وطزاجة صوره والتصاق تجربته بالقلب وفوران الدم من دون تضحية بالفكرة والمعنى اللذين يلامسان حدود الحكمة. في مجموعته الأخيرة"شمس قليلة"، كما في سائر مجموعاته، يحاول زياد العناني صوغ قصيدة ملمومة ومختزلة وبعيدة عن التكلف والافتعال بعدها عن التهويل والصخب التعبيري. يساعده في ذلك اقتناعه التام بأن الشعر لا يأتي من ادعاء النبوة ولا من الترفع عن العالم والإشراف عليه من الأعلى بل من الارتطام اليومي بالأشياء وتجرع مرارة الحياة كما حلاوتها ومن المساحة المشتركة بين الخاص والعام وبين هموم الفرد وشجون الجماعة. ومع ذلك فإن من الصعب أن نجد عند الشاعر حدوداً واضحة وفاصلة بين ما هو ذاتي وما هو خارج الذات أو بين الوجداني والسياسي، بل ان كل ما يكتبه ينصهر في بوتقة الداخل ويكتسب طبيعة الاحتراق الشخصي. ثمة قدر كبير من الألم في شعر زياد العناني. وهو ألم لا تُنقص السخرية من حدّته وجسامته بقدر ما تفضح جوانبه الغامضة وطبيعته السوداء. ومع ان معرفتي الشخصية بزياد ليست وثيقة تماماً لكن القارئ لا يبذل كبير جهد لكي يكتشف مقدار الهول الذي يلف الشاعر والغربة التي تثخن أحشاءه، فضلاً عن شعور واهم باليتم يدفعه باستمرار الى إعلاء شأن الأم والتعلق بأهدابها كما لو انها خشبة خلاصه الاخيرة. واذا كان الشاعر قد أعلن في إحدى قصائده القديمة بأنه لن يجد الجنة مطلقاً بما أن أمه مبتورة القدمين وبما ان الجنة لا توجد إلا تحت اقدام الأمهات فإنه يهدي المجموعة الجديدة الى أمه بالذات، مستعيداً في إحدى القصائد صورة لها لا تختلف كثيراً عن سابقتها:"عبر الزجاج رأيتها/ ما لوحت/ رحلت الى الجنة/ ركبت وحيدة بجانب السائق/ وزفّتها سيارة العميان". تتسم قصيدة زياد العناني بالشفافية والوضوح وما يشبه الترسل السردي. وبقدر ما يبدو الوضوح عنده خادعاً وبعيداً عن السطحية يبدو السرد بدوره بعيداً عن التقريرية والتفسير والشروح الفائضة. فالوضوح في قصيدته ناجم عن مجانية الذهنية والأفكار المجردة لمصلحة الصورة الحية والمشهد المرئي بما يجعل الذهن قادراً على التقاط ذبذبات الصورة مرتسمة فوق شبكية العين. إلا أن هذا الوضوح سرعان ما يبدو مخاتلاً وخادعاً لأنه ليس سوى الجزء الظاهر من جليد المعنى الذي تتوارى كتلته الأساسية تحت سطح المياه. كأن الكتابة عند العناني بمثابة فخ حقيقي يعمل الوضوح من خلاله على استدراج القارئ الى غموض المعنى وتعدد تأويلاته. أما البنية السردية للكتابة فهي تعصم القصيدة من التشتت وتسهم في الربط بين أجزائها وتوظيف مادتها التخييلية بما يخدم البؤرة الأصلية للنص. والشاعر في ذلك يقترب من التعريف الأصلي لقصيدة النثر الذي أطلقته الكاتبة الفرنسية سوزان برنار قبل عقود طويلة من الزمن. إلا أن قصائد"شمس قليلة"لا تقع في سوية واحدة ولا تحافظ على المستوى ذاته، شأنها في ذلك شأن معظم تجارب الشعراء التي تتفاوت حرارتها وإصابتها بتفاوت لحظات كتابتها. كما أن المشكلة في قصيدة النثر تصبح أكثر تعقيداً مع إمعان هذه القصيدة في التجريب وافتقارها الى المعايير النقدية الموازية لمتغيراتها السريعة بحيث تضيق أكثر فأكثر المسافة بين الشعر والنثر الفني أو بين القصيدة والأقصوصة أو بين المفارقة العميقة والطرفة العابرة. ومع ذلك فإن ما يمنع تجربة العناني من الجنوح نحو النثر أو الإنشاء الأدبي هو التصويب الدائم نحو لب المعنى حيث يلمع الجوهري ويتألق. والسخرية عنده نادراً ما تخطئ هدفها أو تقع في"القفشة"المثيرة للضحك بل هي تحفر دائماً في المكان الذي تقبع خلفه علامات الاستفهام والأسئلة المؤرقة كما هي الحال في قصيدة"الطاغية"التي تبعث على المرارة والإشفاق أكثر مما تبعث على النقمة والشماتة:"لم يسقط من فرح/ لم يسقط من سكر/ هي ريح مرت على فزاعته القديمة/ فسقط من غير أن تكون له مهابة الصقر/ أو القطة/ كنا في حناجرنا/ كنا في قلوب الطير/ ياه/ كل ذاك الذي كان يؤلمنا/ مجرد ثوب من قماش يوجه مهنة القتل/ بلا أسفٍ ولا دموع". الناس أساسيون في شعر زياد العناني. لا فرح من دونهم ولا حزن ولا سخرية ولا شتيمة ولا حب ولا كراهية. القصائد كلها تعتمد على الضمائر وتتوزع بين المتكلم والمخاطب والغائب وبين المفرد والمثنى والجمع. الأم حاضرة كما الأب والأخت والأخ والعائلة والأصدقاء والنساء والطغاة والأحياء والموتى. ومع ذلك فثمة شعور ساحق لدى الشاعر بالغربة واليتم ووحشة العالم. لا بل ان هذا الشعور نفسه هو الذي يستدعي كل ذلك الحشد من الحيوات التي لا بد من حضورها لكي يصبح الإحساس بالغربة مدعّماً بالأدلة والشواهد. وحده الموت كفيل بإخراج الشاعر من غربته وإعادته الى حيث يمكن له ان يعثر على معنى لكينونته الضالة كأن الموت نفسه هو الشرط الضروري للانتباه الى ما فقده خلال حياته العبثية"كل شمس لا تطل على قبرك يشوبها الظلام/ اطمئني/ أنا عينك الأولى على الأرض/ سأتابع نمو أزهارك التي كنت تسمعينها.../ سأرعاك وأعيش معك/ حتى وأنت قائمة هناك".