في فهم ما تمارسه اسرائيل من توحش متجدد في لبنان وفلسطين تتوقف المسألة جذرياً على السؤال الآتي: من أين تبدأ القصة؟ اسرائيل تريد للقصة أن تبدأ من قيام مسلحين فلسطينيين بخطف جندي اسرائيلي وتالياً قيام حزب الله في لبنان في 12/7/2006 بخطف جنديين اسرائيليين. القبول بتلك البداية يعني منطقياً أن اسرائيل، حباً منها في السلام وسخاءً وكرماً اختارت الانسحاب من قطاع غزة ومن الجنوباللبناني تاركة الشعبين الفلسطيني واللبناني في حالهما. لكن اسرائيل المسالمة تلك فوجئت بإرهاب فلسطيني ولبناني ضدها انتهى بخطف ثلاثة من جنودها. بالتالي فما تفعله اسرائيل في غزةولبنان ليس توحشاً ولا عدواناً ولا حرباً اقليمية وانما حالة من الدفاع المشروع عن النفس. منطق تبناه من اللحظة الأولى الرئيس الأميركي جورج بوش وحشد في سبيله جزءاً من المجتمع الدولي. لكن مثل تلك النتيجة تنطلق أصلاً من بداية مزيفة للقصة. وفي الدراما... اذا بدأت القصة بمسدس فلا بد أن تنتهي بالرصاص. في الجسد الفلسطيني احتلال استيطاني سرطاني اسرائيلي مستمر للسنة الأربعين على التوالي. وفي سنة 1993 وجدت اسرائيل من يشاركها من الفلسطينيين في أكذوبة اتفاق أوسلو وتوابعه تحت عنوان ملفق هو السلام. في ظل اتفاق أوسلو نفسه وتوابعه ضاعفت اسرائيل من معدلات استيطانها للضفة الغربية وكسرت عزلتها الدولية مقيمة للمرة الأولى علاقات ديبلوماسية مع أكثر من ستين دولة اضافية بينما على الأرض تمضي في اقامة جدار عازل يلتهم الجسد الفلسطيني ويبتلع المزيد من الأرض، تاركة مفاوضيها الفلسطينيين يستمتعون بالجاه المستعار والفلوس والكاميرات والسيارات الفارهة والعطايا السخية بالدولارات وكاريكاتير"سلطة وطنية"هي في جوهرها حكم ذاتي يتنفس الأوكسيجين الإسرائيلي ويعيش به دقيقة بدقيقة. السيد محمود عباس الرئيس الحالي لتلك السلطة هو أصلاً من أبرز مهندسي اتفاق أوسلو وتوابعه. يومها خرج أمام الكاميرات ليقول بغير أن تطرف له عين: لست أدري الى ما سيقودنا اليه اتفاق أوسلو... ربما الى دولة أو الى كارثة. حسناً لم يكن في القصة من يومها سوى الكارثة بينما الذي روجت له اسرائيل في العالم كله هو قصة دعائية حولت القضية الكبرى الى خلاف عقاري. اسرائيل لم تنسحب من قطاع غزة بالمرة، هي أعادت الانتشار ومن موقعها المستجد ازدادت سيطرة على - وتحكماً في - حياة الفلسطينيين. عباس نفسه وكل حكومته ووزرائه لا يستطيعون التنقل في ما بين غزة والضفة الغربية أو حتى داخل قطاع غزة الا بموافقة اسرائيلية. كل المداخل والمخارج بأيدي اسرائيل، وحينما يفكر مسؤول مصري أو أردني مثلاً في الذهاب الى تلك السلطة الفلسطينية عليه أولاً الحصول على موافقة اسرائيل التي تعطيها أو تمنعها حسب ما يناسبها. أميركا واسرائيل دفعتا الفلسطينيين الى انتخابات ترويجاً للمشروع الأميركي بنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. لكن حين فازت منظمة حماس في الانتخابات انقلبت اسرائيل وأميركا على الاثنين: الديموقراطية وحماس. هكذا بدأ العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني الذي وصل الى درجة تجويعه حرفياً، وحتى الدول العربية لم تعد تستطيع التبرع انسانياً للفلسطينيين الا بموافقة اسرائيل وعن طريقها ومن لا يعجبه ذلك من العرب تطلب منه اسرائيل اعادة قراءة اتفاقات أوسلو والتزامتها التي وقع عليها مفاوضوها الفلسطينيون من البداية. وبرغم هدنة عملية لأكثر من سنة التزمتها حماس لم تتوقف اسرائيل في أي يوم عن خطف واعتقال واغتيال من لا يناسبها من القيادات الفلسطينية، هناك عشرة آلاف معتقل فلسطيني في السجون الاسرائيلية كان يفترض الإفراج عنهم منذ سنة 1993 ولم يحدث بل جرى اعتقال المزيد والقتل العشوائي للعائلات الفلسطينية يومياً وتضاعف بعد اختطاف الجندي الإسرائيلي زائد اعتقال 8 وزراء في"الحكومة"الفلسطينية و20 عضواً في المجلس التشريعي، وفوق ذلك قامت اسرائيل بتدمير محطة الكهرباء الوحيدة في غزة ومعظم المنشأت الحكومية ومرافق البنية التحتية بحجة أن هذا انتقام ممن يطلقون صواريخ القسام على اسرائيل مع أن اطلاق تلك الصواريخ البدائية لا يحتاج الى كهرباء أصلاً وانما هو تجبر العقوبات الجماعية التي تفننت فيها اسرائيل منذ قيامها. السيناريو نفسه في جوهره تكرر في لبنان حينما قام حزب الله باختطاف جنديين اسرائيليين. الواقعة في حد ذاتها ليست مفاجئة على ضوء أربع حقائق. أولاً: للمقاومة اللبنانية أسرى لدى اسرائيل وهي مستمرة في رفض الإفراج عنهم. ثانياً: في سنتي 2003 و2005 قام حزب الله باختطاف جنود اسرائيليين فأرغم اسرائيل على الإفراج عن بعض الأسرى كمبادلة لكنها استمرت تحتفظ بآخرين. ثالثاً: ان حسن نصر الله زعيم حزب الله كرر علناً مرات عدة ان استمرار اسرائيل في المماطلة سيرغم المقاومة على خطف جنود اسرائليين وصولا الى الإفراج عن الأسرى اللبنانيين. رابعاً: هناك اجماع لبناني على أن اسرائيل لا تزال تحتل مزارع شبعا كأرض لبنانية كما أن اسرائيل لا تزال ترفض تسليم لبنان خرائط بالألغام التي زرعت بها مناطق متسعة في الجنوباللبناني. حينما قام حزب الله في 12 من الشهر الجاري باختطاف جنديين اسرائليين فعل ذلك في هذا الأطار لكن اسرائيل وأميركااعتبرت ذلك بداية القصة وانقلبت الدنيا بدعاية اسرائلية وغطاء أميركي وبدأت اسرائيل حربها الجديدة ضد لبنان، ليس بمساندة وانما بتحريض أميركي مباشر، من اللحظة الأولى أعلن رئيس وزراء اسرائيل أنها حرب ستطول وخرج الرئيس الأميركي جورج بوش من اليوم الرابع لكي يصرح علناً بأن ما تفعله اسرائيل هو من حقها دفاعاً عن النفس. في هذه المرة تواترت تاليا شواهد وقرائن تؤكد أن ما تفعله اسرائيل هو مهمة أميركية واسرائيلية التنفيذ. مصادر اسرائيلية ذكرت أن هذه الحرب الاسرائيلية ضد لبنان مخطط لها منذ سنة على الأقل، الهدف الإسرائيلي في هذه المرة هو تغيير قواعد اللعبة بالكامل في لبنان؟ في المنطقة؟ في مشروع القرن الأميركي الجديد؟، أما في القاموس الأميركي فإن ما تفعله اسرائيل في لبنان من تدمير وقتل وتوحش وعقاب جماعي للشعب اللبناني بكلمات كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية 21/7 وبكل برود هو مجرد:"آلام المخاض لميلاد شرق أوسط جديد". لكن الرئيس جورج بوش كانت كلماته أكثر ايحاء وتفلسفا فقال بالضبط:"أحياناً يتطلب الأمر مواقف مأسوية للمساعدة على توفير الوضوح في المجتمع الدولي". اذاً: ترويع شعب لبنان بكامله ودفع ستمئة ألف منه الى مغادرة بيوتهم فراراً من الجحيم أصبح مجرد موقف مأسوي يغفره الرغبة في تنوير المجتمع الدولي لكي يصبح أكثر انضباطاً مع الرؤيا الأميركية المستجدة. الآن لدينا مشكلة، وهي مشكلة مروعة حتى لو لم ترها أميركا كذلك. فما تقوم به اسرائيل من توحش ليس ضد حزب الله. انه ضد لبنان. كاتب هذه السطور ومنذ سنوات مبكرة من المؤمنين بأن اسرائيل لديها عقدتها الخاصة ضد لبنان الوطن والفكرة والتركيبة التي تراها نقيضاً لتركيبتها هي ولن تهدأ الا بإلغائها أو وضعها تحت مظلتها. لكن هذا موضوع آخر، موضوعنا الآن هو التحجج الأميركي الإسرائيلي بحزب الله الذي هو في قاموسهما المشترك منظمة ارهابية، هذا الحزب ليس ضيفاً على لبنان حتى يمكن دفعه الى الخروج كما فعلت اسرائيل وأميركا مع ياسر عرفات وجماعته في 1982، وقتها لم يكن"حزب الله"موجوداً أصلاً. لقد نشأ نتيجة للغزو الإسرائيلي لأن قاعدته هم أهل الجنوباللبناني أنفسهم. هؤلاء أبناء الأرض وتلك بيوتهم وقراهم وكما في كل الدروس الكلاسيكية فإن أهل وأصحاب الأرض هم الذين اذا لم يدافعوا عن أرضهم فهم لا يستحقونها. هم يعرفون مسبقا أنهم ليسوا بالمرة بمضاهاة اسرائيل عسكرياً ولن يتاح لهم ذلك في أي وقت. لكنهم عرفوا الشيء البديهي وهو: اذا لم أحيا في أرضي مرفوع الرأس فعلى الأقل أموت في سبيلها بكرامة. لم يهربوا الى بيروت ولا الى أي مكان آخر. أيضاً لم يتحججوا بعرب أو غير عرب لنجدتهم . لقد تصرفوا كمواطنين فقراء مهمشين يسعون الى الدفاع عن حقهم في الحياة على أرضهم بكرامة وفي سبيل ذلك لم يقوموا بمعجزات. قاموا فقط بما تقوله الكتب عن أصول المقاومة الشعبية. وبتلك الأصول فرت اسرائيل من الجنوباللبناني في سنة 2000. لم يحدث هذا لأن اسرائيل المدججة بأكثر الأسلحة تطوراً أصبحت فجأة ضعيفة ومنهارة. حدث لأن اسرائيل تأكدت أن تكلفة استمرارها في احتلال الجنوباللبناني مرتفعة وتزداد ارتفاعا . بعد ست سنوات من خروج اسرائيل المذعور من الجنوباللبناني تعود الآن لتدمير لبنان والتوحش ضده بحجة حزب الله. لكن: ما علاقة حزب الله بضرب اسرائيل لمطار بيروت المدني وتدمير جسور ومستشفيات ومصانع ألبان وتقطيع أوصال لبنان وفصل القرى والمدن عن بعضها البعض والاستئساد على المدنيين، بل حتى ضرب أبراج الإرسال التلفزيوني والإذاعي لخمس محطات لبنانية مختلفة لا علاقة لها أصلا بحزب الله؟ بل ان اسرائيل كانت تأمر سكان قرى في الجنوب بالفرار شمالا وحينما بفعلون هذا بالضبط تمطرهم غارات وقنابل فتقتلهم عشوائياً رجالاً ونساءً وأطفالاً. بل ما علاقة هذا بقيام اسرائيل بقصف موقع للأمم المتحدة فقتلت أربعة مراقبين من قوة حفظ السلام برغم أنه موقع قديم ومعروف لإسرائيل سلفاً، وعلى رغم اتصال الأمين العام للأمم المتحدةمرات عدة برئيس وزراء اسرائيل استمر قصف الموقع ومحيطه 14 مرة لأكثر من عشر ساعات. اسرائيل كانت متأكدة من البداية من حماية أميركا لها في المجتمع الدولي فمنعت مجلس الأمن أولاً من اصدار قرار بوقف اطلاق النار ثم منعته من اصدار مجرد بيان بأدانة القصف الإسرائيلي لمقر الأممالمتحدة. فرنسا، وهي الشريك الأساسي لأميركا سابقاً في اصدار القرار 1559 ومن بين مقتضياته نزع سلاح حزب الله عاملتها اسرائيل بفظاظة حينما أرسلت سفينة فرنسية محملة بالمؤن والمساعدات الى أفراد قوة الطوارئ الدولية اليونيفيل المحاصرين داخل المقر العام في الناقورة. البوارج الإسرائيلية المحاصرة للبنان قامت بتفتيش السفينة الفرنسية ومع ذلك منعتها من الدخول وأرغمتها على مغادرة المياه الأقليمية اللبنانية فامتثلت فرنسا. فرنسا تبدو صورتها في هذه المرة مهزوزة وشاحبة تماماً. تستطيع فرنسا مشاركة أميركا في استصدار القرار 1559 لكن هذا لا يجعلها مقبولة أميركياً واسرائيلياً كشريك. اللعبة في هذه المرة أميركية من أولها الى آخرها ولا تستطيع فرنسا سوى الشكوى والتذمر من رفض أميركا الزام اسرائيل بوقف اطلاق النار ولو موقتاً أو حتى لأسباب انسانية. أميركا من اللحظة الأولى دعمت جدول الأعمال الإسرائيلي بالكامل وكفلت له الغطاء الزمني المفتوح وشحنت لإسرائيل كميات اضافية من وقود الطائرات وأنواع جديدة من القنابل الذكية لمضاعفة قدرتها التدميرية في لبنان، وعشية زيارة كوندوليزا رايس الأخيرة الى اسرائيل حصلت اسرائيل من أميركا على موافقة بالاستمرار في الحرب لأسبوع اضافي. وزيرة خارجية أميركا أعلنت في زيارتها لإسرائيل أنه حان الوقت لشرق أوسط جديد. عنوان عريض وملتبس آخر يلحق بشعارات سابقة. لكن المهم ان القصة من البداية لم تكن الإفراج عن أسيرين اسرائيليين لدى حزب الله، بل ان كوندوليزا رايس لم تثر هذا الموضوع أصلاً في محادثاتها ببيروت ولا في اجتماع روما. فقط من روما تصدر وزيرة الخارجية الأميركية كلمات التوبيخ لسورية وايران مع أنها رفضت دعوة أي منهما الى اجتماع روما بينما حرصت على دعوة قبرص مثلاً. وقبلها بيومين في 22/7 كانت مارغريت بيكيت وزيرة الخارجية البريطانية تصرح في جريدة"الفاينانشيال تايمز"بأن الحكومات الغربية ليس لديها أي أدلة ملموسة تشير الى وقوف ايران وسورية وراء هجمات حزب الله مضيفة قولها:"لست واثقة من أن تتمكن أي حكومة في العالم أن تقول ان لديها دليلا قويا لتورط ايران أو سورية. وما أريد قوله هو أن كل الحكومات تقريبا تشاطرنا الرأي". لكن في 25/7 وبفعل فاعل أدلت الوزيرة نفسها بأقوال معاكسة داعية سورية وايران الى الكف عن دعم حزب الله. من ضباب الحرب أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيريتس في 23/7 أن اسرائيل ترى امكان نشر قوة متعددة الجنسية في جنوبلبنان تكون لها صلاحيات قوية، مشيراً الى أن تلك القوة سيقودها حلف شمال الأطلسي. وحسب"واشنطن بوست"فإن وزيرة الخارجية الأميركية أثارت الفكرة تلميحاً مع رئيس وزراء لبنان خلال زيارتها القصيرة لبيروت. لكن الرئيس الفرنسي جاك شيراك صرح يوم انعقاد مؤتمر روما بأن حلف شمال الأطلسي ليس مخصصاً لإعداد مثل تلك القوة لأسباب تقنية كما لأسباب سياسية فضلاً عن أن"الحلف ينظر اليه في تلك المنطقة، شئنا أم أبينا، على أنه ذراع مسلحة للغرب". في الواقع أميركا هي التي جرجرت الحلف وراءها في افغانستان وهي تريده أمامها في دارفور بالسودان. والآن تدفع اسرائيل الى المطالبة بالحلف في لبنان. واذا جرى مثل هذا التطور بأي حجة سنصبح أمام فهم آخر مختلف جذرياً لكل الحرب المتوحشة الإسرائلية في لبنان، وما سيتلوها من أحداث. * كاتب مصري.