كان يوماً من الصدمة والغضب. في كل أسبوع هناك دائماً يوم"أحد". لكن الأحد 2004-12-05 كان عاصفاً قبل وبعد أي أحد آخر. فجأة أعلنت مصر الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلى عزام عزام وأيضاً إفراج إسرائيل عن الطلاب المصريين الستة الذين تعتقلهم منذ 2004-08-25 واستباقاً لأي تفسيرات جامحة فإن"الإفراج عن الطلاب المصريين... لا يرتبط بأي قضايا أخرى"حسب تأكيد متحدث رسمي مضيفاً بأنه"لا توجد أي صفقات في هذا الموضوع وان الإجراءات القانونية تنطبق على كل موضوع على حدة"... الخ. بقانون أو بغيره كانت وكالات الأنباء توزع في اليوم نفسه صورتين نشرتهما صحف عدة في صفحاتها الأولى: صورة لاثنين من أولئك الطلبة المصريين مكبلي الأيدي والأقدام ومعصوبي الأعين بينما يجلس وسطهما جندي إسرائيلي بمدفعه الرشاش مبتسماً للمصور، وفي الصورة المجاورة الجاسوس عزام عزام بعيد الإفراج عنه رافعاً بيمناه علامة النصر. للصور دلالات، وللصدمات مغزى، أكثر من مغزى. فبداية ليس هناك أي وجه للمناظرة أو المقارنة. عزام عزام إسرائيلي درزي من فلسطينيي 1948 دخل الى مصر للتجارة تحت الغطاء المستمر من معاهدة السادات مع إسرائيل. في سنة 1997 أصدر القضاء المصري حكماً بسجنه 15 سنة بعد ثبوت تهمة التجسس عليه ضد مصر لحساب إسرائيل. من وقتها لم يخلُ برنامج كل رئيس وزراء إسرائيلي من مطالبة مصر بالإفراج عنه. استخدمت إسرائيل كل وسائل الضغط المتاحة لإرغام مصر على الإفراج عن الجاسوس، استخدمت الكونغرس الأميركي والإدارات الأميركية وعواصف متقطعة من الهجوم الإعلامي، استخدمت حتى بعضاً من جماعة ياسر عرفات في سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني. في كل مرة كان الرد الرسمي المصري هو: الجاسوس جاسوس والقانون المصري هو القانون المصري، لا إفراج ولا عفو ولا مقايضات. للطلاب المصريين الستة قصة أخرى مختلفة تماماً، منذ اعتقلتهم إسرائيل في 2004-08-25 وهناك روايتان: اذا أخذنا برواية الطلاب فإنهم كانوا في رحلة كشافة في منطقة العريش ثم ضلوا طريقهم في الصحراء الى أن فوجئوا بجنود يعتقلونهم تبين أنهم إسرائيليون. أما اذا أخذنا بالرواية الإسرائيلية فهى كالآتي: هؤلاء طلاب تسللوا الى إسرائيل عمداً بهدف التخطيط لاختطاف دبابة إسرائيلية وقتل جنودها والتخطيط للسطو على أحد البنوك الإسرائيلية لتمويل عمليات أخرى. الأدلة مفحمة: مع الطلاب الستة قنبلة صوت واحدة و14 سكين مطبخ. لكن من بين أسئلة عدة: كيف لطلاب ستة بقنبلة صوت واحدة و41 سكين مطبخ أن يختطفوا دبابة إسرائيلية؟ ويخطفوها الى أين؟ وأي بنك إسرائيلي هذا ينوون السطو عليه وهم لم يذهبوا الى إسرائيل سابقاً ولا يعرفون أي شيء عنها؟ أحد فوائد الصدمة دائماً هو أنها تعيد طرح أصول الأشياء. من تلك الأصول الإجراءات التي تسمح بها معاهدة السادات مع إسرائيل لحماية الحدود المصرية. تقريباً: لا شيء. عسكرياً تنتهي حدود مصر عند قناة السويس وسياسياً عند الخطوط الدولية. في ما بينهما هناك قيود فادحة على مصر وتنازلات جوهرية منها لم تتعرض في أي وقت للمراجعة. أحد تجليات هذا الخلل الفادح كشف عنه العمل الإرهابي الذي جرى في طابا قبل شهور. فمن سياق الحدث اكتشف المواطن المصري العادي أن للإسرائيليين امتيازاً شاذاً بالكامل هو حرية الدخول الى طابا والخروج منها بلا قيد ولا شرط ولا تأشيرة مصرية. ومن تلك المنطقة الحدودية تبين أن هناك أربعين ألف إسرائيلي دخلوا الى سيناء في سنة واحدة تحت عنوان السياحة بغير أن تعرف عنهم أي سلطة أمنية مصرية شيئاً. الوجود الأمني مجرد شرطة محدودة العدد وبسلاح يدوي خفيف، كما أنها رمزية تماماً وكفاية علينا"سينا رجعت لينا تاني... هيه". بلايين وبلايين من الأموال المصرية جرى دفعها الى سيناء لإقامة مشاريع سياحية من غير التوقف لحظة عند كيفية تأمين تلك المنشآت. التأمين لا تستلزمه الحروب فقط. يستلزمه السلام أيضاً. في الجانب الإسرائيلي وقع حدث يترجم عملياً فهم إسرائيل لهذا السلام. في 2004-11-18 قام جنود دبابة إسرائيلية بإطلاق قذائفهم على ثلاثة جنود شرطة في الجانب المصري من الحدود فسقطوا قتلى في التو واللحظة. إسرائيل كعادتها تقتل أولاً وربما تعتذر بعد ذلك حتى يستمر المصريون في غيبوبة:"سينا رجعت تاني لينا... هيه". مرة أخرى، من فوائد الصدمات أنها تعيد طرح أصول الأشياء وأيضاً محاولة الالتفاف عليها. فإزاء الغضب العارم في الشارع المصري من الإفراج عن الجاسوس عزام عزام جرى أولاً إنكار أن في الأمر صفقة. بعدها بأربع وعشرين ساعة احتشد الإعلام الرسمي ليوحي بمكاسب اضافية غير الإفراج عن الطلاب الستة. المكاسب - حسب العناوين الرئيسية لأهرام 2004-12-07 هي:"شارون يوافق على تسهيل إجراءات الانتخابات الفلسطينية والتنسيق مع السلطة بشأن الانسحاب - تعهد إسرائيلي بتنفيذ خريطة الطريق بمجرد نجاح الفلسطينين في تحمل مسؤولياتهم الأمنية - دعم مالي دولي للفلسطينيين لإجراء الانتخابات ودفع المرتبات وشراء معدات للشرطة - رئيس الوزراء الإسرائيلي يجتمع مع أبو مازن وقريع بعد الانتخابات - اتفاق القاهرة وتل أبيب على تولي 750 من سلاح الحدود المصري تأمين ممر صلاح الدين كمرحلة أولى - الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة في آذار مارس المقبل وتدريب 45 ضابطاً فلسطينياً في مصر أول شباط فبراير - اتفاقية الكويز تحقق طفرة لصادرات النسيج المصرية للسوق الأميركية وتوفر نحو 50 ألف فرصة عمل وتجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية". باستثناء اثنين من بنود تلك القائمة الطويلة فإن الباقي يتعلق بإسرائيل والفلسطينيين. في تلك الدائرة هناك 11 سنة سابقة على الأقل تثبت أن ما يسمى ب"الوساطة"المصرية بين إسرائيل والفلسطينيين هو فخ كبير انزلقت اليه مصر من البداية. لا ياسر عرفات وجماعته استشاروا مصر قبل صفقتهم السرية مع إسرائيل في أوسلو. ولا إسرائيل تعطي اعتباراً لمصر وهي تتوحش ضد الفلسطينيين يومياً ما عدا جماعة أوسلو بما في ذلك قطاع غزة الملاصق للحدود المصرية. وفي كل الحالات تعرف إسرائيل عن مفاوضيها من جماعة أوسلو أضعاف أضعاف ما تعرفه مصر. يبقى الجزء المباشر المتعلق بمصر. فموافقة إسرائيل على اضافة 750 جندياً من سلاح الحدود في الجانب المصري من الحدود هو تأكيد - وليس إنهاء - لشذوذ التنازلات التى تتحملها مصر حسب معاهدة السادات مع إسرائيل في 1979 والمستمرة حتى اليوم. هذا يعني خللاً جذرياً في الأمن لا بد من مراجعته أمس واليوم وغداً. والى أن يحدث ذلك تظل الحدود المصرية مع إسرائيل خطراً كامناً ماثلاً على مدار الساعة، خطراً من المنظور المصري طبعاً. نأتي الى حكاية اتفاقية"الكويز"التى يجري تبشير المصريين بها فجأة. هي أصلاً مشروع أميركي نيابة عن إسرائيل مطروح منذ سنة 1996 خلاصته الإلحاح على مصر ودول عربية أخرى بقبول ترتيبات تؤدي عملياً الى إدماج إسرائيل عضوياً في الاقتصاد العربي تكون مكافأتها السماح بدخول هذا الإنتاج العربي الإسرائيلي المشترك الى السوق الأميركية معفي من الرسوم الجمركية الأميركية. حينما لم تتحمس مصر ناورت إسرائيل بالتوجه الى اتفاق مع الأردن فكان لها ما أرادت ومن يومها يجري الطبل والزمر بنتائج ذلك الأتفاق تحت عنوان أنه كفل للأردن 27 ألف فرصة عمل داخلياً بغير إشارة الى ما كسبته إسرائيل أضعاف ذلك في نوع من السلع هى أصلاً غير مؤهلة لإنتاجه. ولأن العين على مصر خصوصاً وعلى صناعة النسيج والملابس الجاهزة فيها تحديداً لأنها أعرق صناعة مصرية لمصر فيها مزايا نسبية عدة فإن المعروض إسرائيلياً بإلحاح أميركي هو انتاج إسرائيلي - مصري مشترك تنفتح له أبواب الجنة الأميركية. المنسوجات بداية لما بعدها والترتيب كله تحت عنوان اتفاقية باسم"الكويز". في الصحف المصرية قيل إن التوقيع بين مصر وإسرائيل وأميركا على اتفاق"الكويز"هذا سيؤدي الى توليد خمسين ألف فرصة عمل جديدة داخل مصر كبشرى لصناعة بها مليون عامل. في اليوم التالي ارتفع الرقم بفعل فاعل الى ربع مليون فرصة عمل جديدة. بحلول يوم الخميس أصبح الرقم شاملاً لمليون عامل. والأرقام في كل مرة منسوبة الى مصادر رسمية - غير محددة - تحمست فجأة لاتفاق"الكويز"الذي وقع عليه رسمياً في 14 الجاري بين مصر وإسرائيل وأميركا. الأصل في الأشياء هو التجارة الحرة بين الدول. أميركا نفسها تعظ العالم كله صباح مساء بفوائد وأهمية حرية التجارة لكنها في سوقها الخاص تبتدع القيود بعد القيود. من بين القيود فرض حصص على صادرات الدول الأخرى اليها من المنسوجات من دون أن نتطرق الى سلع أخرى. مصر كالدول الأخرى كان محدداً لها حصة. وطوال عشر سنوات سابقة لم تستوف الصادرات المصرية تلك الحصة الا في سنة واحدة، وفي حينها احتجت أميركا رافضة هذا التجاوز المصري الذى كان بأقل من خمسين مليون دولار. التجاوز لم يتكرر ولتحيا حرية التجارة. اعتباراً من أول الشهر المقبل ستوقف أميركا العمل بنظام الحصص هذا بالنسبة للمنسوجات والملابس الجاهزة. يعني التجارة حرة؟ أبداً. القيود كانت برتقالية والأن ستصبح حمراء. هذا كل شيء. في ظروف طبيعية تستطيع مصر التفاوض مع أميركا لإقامة منطقة للتجارة الحرة بينهما فيستفيد الطرفان خصوصاً والميزان التجاري حالياً لصالح أميركا بثلاثة أضعاف. ساعتها تشمل الفائدة كل السلع وليس المنسوجات وحدها. أميركا فعلت ذلك مع المغرب والبحرين ومستعدة لعمله مع كل طرف قدراته محدودة أصلاً. مصر مستمرة في التفاوض مع أميركا منذ سنوات لإقامة منطقة حرة للتجارة بلا فائدة. أميركا تربط المسألة بطلبات سياسية واقتصادية استثنائية. والى أن يحدث ذلك فالرد الأميركي هو: اتفقوا مع إسرائيل تحت سقف اتفاق"الكويز"فيشملكم الإعفاء الأميركي لإسرائيل من الرسوم الجمركية. الكلام يبدأ بالاقتصاد لكنه ينتهي الى السياسة. قبول مصر لاتفاقية"الكويز"مع إسرائيل وأميركا يختصر مصر الى موقع بالغ الغرابة. موقف الدخول الى السوق الأميركية من باطن إسرائيل. هذا بحد ذاته تطور سياسي / اقتصادي له أبعاد طويلة المدى.. ومتفجرة. هو عودة الى مشروع الشرق أوسطية من الباب الخلفي. إسرائيل تقول إن حصتها من الخامات ستكون نحو 12 في المئة فقط مقابل 35 في المئة لمصر. في التوجه الى السوق الأميركية ربما يعطي هذا ميزة محدودة للغاية وموقتة للمنسوجات المصرية. لكن مقابل ذلك ستصبح مصر عملياً مروجة لإسرائيل في كل الأسواق الأخرى فحيثما تدخل السلعة المصرية تكون إسرائيل في نسيجها. لماذا كل هذا؟ وما الخطأ؟ وأين البدائل؟ كل دول العالم ابتكرت بدائل حتى في تعاملها مع السوق الأميركية، تونس مثلاً... أكثر اختراقاً للسوق الأميركية بغير إلزامها بدفع الإتاوة لإسرائيل من خلال"الكويز "أو غيره. ماليزيا نموذج آخر. ثم ان مصر ليست مقطوعة من شجرة. مصر دولة كبيرة في عالم عربي متسع يستطيع - لو تصرف كجماعة اقتصادية لمصلحة أطرافه - أن يحصل على شروط أفضل للتجارة حتى مع أميركا. هذا يعيدنا الى يوم الأحد اياه 2004-12-05 يوم إعلان إفراج مصر عن الجاسوس عزام عزام. يعيدنا من ثلاث زوايا. أولاً: صرح وزير الخارجية الإسرائيلي في اليوم نفسه بقوله:"توقعوا مفاجآت في علاقاتنا مع الدول العربية حيث نتوقع قيام عشر دول منها على الأقل بفتح ممثليات ديبلوماسية لها في إسرائيل... من بينها دول خليجية". ثانياً: أعلن موشيه كحلون النائب الليكودي وأيضاً نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي انه تلقى دعوة لزيارة ليبيا وعقيدها القذافي بعد لقاءات سرية في لندن لبحث موضوع دفع ليبيا تعويضات الى من سبق أن هاجروا منها من يهود. ثالثاً: استقبل آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الجاسوس المفرج عنه مصرياً عزام عزام مباهاة بإنجاز شارون غير المسبوق. فعلاً... إنجاز غير مسبوق. أسوأ ما فيه أن مصر الرسمية قمعت الغضب الشعبي وأبعدته عن الصفحات الأولى ومقدمات نشرات الأخبار. لن يمر وقت طويل قبل أن تسمع مصر طلبات إضافية... بالضبط لأنها تظاهرت بأن صفقة الجاسوس الإسرائيلي مرت في سلام. هل حقاً هي مرت في سلام؟ * كاتب مصري.