المشهد البدوي التقليدي الذي رسخته المسلسلات التلفزيونية في عقول جيل شبابي لم يعش أجواء الصحراء تماماً، يقتضي دائماً وجود دلة قهوة موضوعة عند موقد نار، يجلس إلى جانبها خادم، كل مهمته أن يصب القهوة عندما يطلب منه الشيخ ذلك. لكن القهوة اليوم ليست ذلك المشروب الذي يحظى به الشيخ في بيت الشعر وسط الصحراء، وإنما شراب يكتسي حلة شبابية زاهية: يبدو مشروب القهوة شأناً تجديدياً عندما يتعلّق الأمر بحساب التقاليد والخروج عن العادات. فهي لم تعد بنّاً محمصاً وبضع حبات هيل وماء ساخناً فقط، وإنما مكونات أخرى لم يكن متوقعاً أن تدخل في مكونات الشراب الأول على المائدة، الذي يكاد يكون شراباً وطنياً. يقول محمود، وهو شاب عاطل من العمل:"كان أهلي يمنعونني دائماً، وأنا بعد طفل، من شرب القهوة، بحجة أنها تنبت لي شارباً. لهذا أنا لا أشرب القهوة اليوم، إذ لم أعتد عليها. لكن صورة القهوة في مخيلتي إيجابية جداً: أرى فيها مشروباً دخل في حياتنا على الأقل عند طلب الفتاة للزواج". وموقف القهوة من الزواج واضح: يوضع فنجان قهوة ولا يشرب منه طالب العروس إلى أن يجاب طلبه، ثم يهمّ بشربه حين يوافق أهل العروس. هذا الموقف، الذي لم تخل منه"جاهة"قدمت لطلب يد فتاة ل"زين الشباب"صار عرضة لأن يندثر في رأي محمود. يقول:"القهوة اليوم ليست نفسها ذلك المشروب الذي كنا نعيش معه. حين أذهب إلى أحد المقاهي أرى على لائحة المشروبات عشرات الأصناف من القهوة، بدلاً من الصنفين التقليديين: العربية والتركية". وفي مقاه شبابية حديثة، تم تطويع القهوة، مشروب الكبار، ليصير مشروباً شبابياً بامتياز: قهوة بالكريمة وأخرى معطرة بعطور أو مزينة بأشياء أخرى لا يعرف دقائقها من اعتاد على شرب قهوة تقليدية في المنزل. شيماء، الطالبة الجامعية، مستاءة من حال القهوة الجديد. تقول:"لم تعد القهوة كما في السابق، مشروباً له نكهته الخاصة ورائحته المميزة. صرت أراه كأحد أصناف الوجبات السريعة، يعد فوراً على ماكينة بلا روح، والأسوأ بلا رائحة". وشيماء، التي تعترف بإدمانها على شرب القهوة التركية كل صباح، تكسب حال القهوة الجديدة بعداً ذا علاقة بالعولمة، وبالتأكيد فإن"الأميركان"هم السبب. تقول:"بعد أن خرّبوا كل شيء، جاء الدور على القهوة. الأميركان شاطرون في التجديد على طريقتهم التي لا أطيقها. لا أدري كيف يمكن الاستمتاع بفنجان قهوة مثلج؟ لست ضد التجديد، ولكن صورة دلة القهوة على موقد النار بدأت تتكسر في مخيلتنا، ما يعني أن صورة أهلنا في أذهاننا تفقد باستمرار شيئاً من تفاصيلها". وتضيف:"صورة أبي وجدي عندي فيها دلة قهوة وفنجان صغير. اليوم جيلنا سينظر إليهم وكأنهم قادمون من العصر الحجري، وسيتساءلون: أين كانوا من القهوة المعطرة أو المثلجة؟ هذا جزء من العولمة، وهدم ثقافة الآخر، وإعلاء الثقافة الأميركية الفارغة". ونظرة شيماء إلى التجديد الذي خضعت له صورة القهوة في مخيلة الشباب العربي لا تقتصر عليها وحدها إذ من المؤكد أنها نظرة يرى فيها كثيرون تحطيماً لعادات وتقاليد، ورمياً للماضي بالحجارة، حتى تتكسر صورته تماماً في الأذهان. على أن الأهم من هذا، أن شباباً كثراً، ربما أكثر من"حزب شيماء"يتعاملون مع شأن تجديد القهوة بهدوء أكثر. ويتجلّى الهدوء هذا في ارتياد كثيف لمقاه تقدم"القهوة الحديثة". يقول سامر، وهو أستاذ مدرسة:"بالنسبة إليّ القهوة ليست مشروباً عربياً أصيلاً. فلا أنا ولا أهلي اعتدنا على شرب القهوة العربية، وإنما التركية. والقهوة الحديثة اليوم هي تطوير للقهوة التركية، أما القهوة العربية، التي يستسيغ شربها من عاشوا حياة الصحراء أكثر، فلم تخضع للتغيير. أعتقد بأننا لا نستحق التجديد. فللتجديد ناسه!".