أفهم قلق دول كثيرة بسبب تطور الأوضاع في نيبال، هذه المملكة الهندوسية المتاخمة للتيبت والدولة الفاصلة بين الصينوالهند. فجأة اكتشفت الأطراف جميعاً أن المنطقة في حال غير الحال التي سادت لفترة طويلة. فالهند عملاق بدأ لتوه مشوار الاستيقاظ بعد استرخاء كان الظن أنه مستدام. والصين عملاق يخطو بالقفز، كل خطوة يخطوها تعوضه عقداً أو قرناً ضاع في التخلف أو التخبط أو في اليأس. ونيبال شعب قرر فجأة أن ينتزع زمام الأمور من أيدي حاكم مستبد وأحزاب فاسدة وحركة تمرد بالغة العنف. بدت هذه النظرة السريعة كافية لأول وهلة للاقتناع بأن العامل الجيوسياسي كان الدافع الأوحد لقلق الصين ولكن بعد قليل من التأمل نكتشف دوافع أخرى تدفع الصينيين وغيرهم بقوة أكبر في اتجاه القلق، وربما التوتر. كنا نعرف منذ سنوات أن في نيبال حركة تمرد بدأت محدودة القوة وتنامت مع مرور الوقت. تنامت أيضاً مع تفاقم الاستبداد والفساد والفقر والظلم الاجتماعي. وربما كان أهم ما لفت انتباهنا في هذا التمرد اختيار قياداته لأيديولوجية الرئيس الراحل ماو تسي تونغ وممارساته نبراساً للحركة ومرشداً لها بعد أن كانت"الماوية"كعقيدة حكم في الصين قد انحسرت وحلت محلها سياسات ما يسمى باشتراكية السوق، وهي مزيج من مبادئ اقتصاد السوق الاشتراكية وسياسات رأسمالية الدولة، تمارسها القيادة الصينية بتدرج يسمح لها بتفادي الصدام المباشر مع تراث الرئيس ماو وأيديولوجيته. وطالما كان نشاط الحركة الماوية في نيبال قاصراً على مناطق الريف، وكانت أعمالها لا تتجاوز اغتيال المسؤولين الحكوميين وضباط في الجيش أو الشرطة، وكان الملك يقبض على زمام الحكم بقوة وحزم، وكانت الهند، ومن ورائها المجتمع الدولي، تساند جهود القضاء على الحركة، لم تبد الصين قلقاً واضحاً، أو على الأقل لم تتدخل في شؤون نيبال، مطمئنة إلى أن نمو حركة التمرد سوف يظل غير مؤثر ولن يتمدد فيخترق الحدود مع الصين في محاولة للعودة إلى مسقط رأسه في الريف الصيني الذي بدأ يعاني من إهمال سلطة مركزية في بكين تستنزف الريف لصالح الصناعة والخدمات في المدن وضواحيها. وكنا نعرف أن في الهند، وبالتحديد في منطقة غابات تقع في شرق وسط شبه الجزيرة، تنشط جماعة متمردة ترفع شعارات ماو تسي تونغ، وتطلق على نفسها، أو أطلقوا عليها، الناكساليين Naxalites نسبة إلى مدينة ناكسال باري التي ولدت فيها هذه الحركة في عام 1967. وكان الظن دائماً، كما كان الظن بالحركة الماوية في نيبال، أن مصيرها الاندثار تحت ضربات قوى الأمن والجيش والميليشيات المسلحة التي نظمتها ودربتها حكومة نيودلهي وأطلقت عليها"سلوى غودوم"وتعني"مبادرة سلام"وكلفتها بنشر الرعب بين سكان الأقاليم التي تنشط فيها قوات التمرد، فمارست الاغتصاب وقتل المدنيين وتعذيبهم. فعلت حكومة الهند ما تفعله حكومات في أميركا اللاتينية وفي افريقيا والشرق الأوسط. وفي الأسابيع الأخيرة خرجت الأنباء من الهند تعلن أن الحركة نمت وتمددت على رغم عنف السلطة المركزية ضدها وضد الفلاحين وربما بسببه وتعلن أن التمرد تفشى وامتدت العدوى إلى مملكة آسام في أقصى الشمال الشرقي. نعود إلى مملكة الهمالايا، حيث كان الملك يقف سداً منيعاً ضد تقدم الماوية في الاتجاهين، اتجاه الهند واتجاه الصين. كان الملك في نيبال يعتمد لفرض استبداده على سلالته المقدسة التي حكمت بلاد"الشانغري لا"منذ عام 1743، وهي سلالة تعتز بأنها خرجت من رحم الآلهة الهندوسية فيشنو Vishnu. ولذلك استطاع الملك الزعم بأنه"الإله الحي". وفي عام 1996 انتعشت الحركة الماوية بسبب ما أطلق عليه البنك الدولي نظام التمييز العنصري - الطبقي - العرقي - الديني، وبخاصة في مناطق غرب نيبال حيث يعيش أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر. وفي سنوات لاحقة امتد تأثير الماوية في نيبال إلى مناطق على حدود التيبت الصينية وبخاصة في مقاطعتي موستانغ ومانانغ، وعلى عكس الماوية الهندية، حظيت"ماوية"نيبال باهتمام العالم الخارجي، وقامت دول بتدريب"ميليشيات مدنية"مسلحة، من مجرمين سابقين ونزلاء سجون، على الاغتيال والاغتصاب، وحرق المنازل وعمليات الاختطاف، وفي مرحلة أخرى اجتمعت دول كثيرة ومنها الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والهندوالصين على فكرة ضرورة الضغط على الملك لعقد صفقة مع الماويين وإجراء انتخابات ديموقراطية لمنعهم من تحقيق النصر الحاسم. ثم وقع ما لم يكن في حسبان المتمردين الماويين أو الحكومة أو الملك أو الهندوالصين أو المجتمع الدولي، إذ انتفض الشعب النيبالي في مظاهرات متصلة تطالب بالديموقراطية وتقليص سلطات الملك وتغيير الحكومة وإجراء انتخابات جديدة. وحاولت دول أجنبية إحباط هذه المظاهرات، بل إن الماويين أنفسهم لم يكونوا سعداء بها لأنها انتزعت منهم عنصر المبادرة. وانتصرت الحركة الديموقراطية الجماهيرية وتشكلت حكومة جديدة برئاسة براساد كويرالا Prasad Koirala وضمت وزيراً للخارجية من الحزب الشيوعي النيبالي، وأقسمت الحكومة اليمين كحكومة انتقالية وتحددت مهامها في حفظ الأمن وتحقيق السلام وفرض الرقابة على الجيش واقتراح تعديلات رئيسية للحد من سلطات القصر الملكي. يقول كاتب هندي معروف إنه منبهر بالشعب النيبالي الذي انتصر في أربع جبهات في آن واحد : انتصر على الملك رغم نجاح هذا الأخير في حشد الجيش والشرطة وفرض منع التجول، وانتصر على الأحزاب التي أرادت وقف المظاهرات بحجة الحاجة إلى عقد صفقة مع الملك لصالحها وعلى حساب الشعب، وانتصر على المتمردين الماويين بعد أن رفض رفع شعاراتهم في المظاهرات، مما يعني أن الشعب رافض للتطرف. أما الانتصار الأكبر للشعب فكان على"المجتمع الدولي"حين رفض طلب الدول الغربية وقف التظاهرات والتفاوض مع الملك. كان واضحاً على امتداد الثورة الشعبية أن المجتمع الدولي سقط في أعين الجماهير النيبالية وتعثرت محاولات الهيمنة الهندية وتجددت نيبال عنصراً مؤثراً في توازن الدولتين الإقليميتين الأعظم، الهندوالصين. لم تكن مفاجأة لمن يعرف بعض التفاصيل عن حقيقة ما كان يجري في الخفاء، أن يكون أول الزائرين بعد ساعات من تشكيل الحكومة الجديدة ريتشارد باوتشر مساعد وزيرة الخارجية الأميركية فالمعروف أن نيبال أهم موقع للتنصت على الصين في جنوب آسيا، وفي أعقابه إيريك سولهايم وزير التنمية الدولية النرويجي ومسؤولون من دول ومؤسسات اقتصادية إقليمية ودولية أخرى، ثم جاء من الهند مبعوثون يعرضون معونات عسكرية ومالية ويطالبون بسرعة تهدئة الأوضاع وفرض الاستقرار. إن ما وقع في نيبال، وما يحتمل أن يقع في المستقبل قد يكون أكبر من توقعات دول كثيرة في آسيا وخارج آسيا. كانت تجربة التغيير في نيبال طويلة وشاقة وعنيفة وأظن أنها ستستمر على هذا الحال لفترة غير قصيرة خصوصا بعد أن هبط على العاصمة منذ أيام أكثر من 200 ألف من الأقاليم يؤكدون تضامنهم مع مطالب القيادة الماوية بتعديل الدستور وانضمام الميليشيات للجيش، واستعدادها التخلي عن العنف، وهي المظاهرة التي ظهر فيها لأول مرة رام براساد هوماياي الرجل الذي قاد التمرد الماوي من كهوفه في الجبال، محذراً من أن التراجع عن التغيير يعني عودتهم إلى الجبال وعودة القتال. وقبل أن ينزل هؤلاء إلى العاصمة كانت الجارتان الهندوالصين تعيدان حساباتهما فقد انتاب الهند قلق شديد نتيجة قرار البرلمان النيبالي إنهاء الوضع الخاص لنيبال باعتبارها الدولة الهندوسية الوحيدة في العالم وإعلانها دولة علمانية. والمعروف أن الملك النيبالي، بحكم انتمائه إلى سلالة"الآلهة"، كان الأب الروحي للهندوسيين في العالم كافة، وهو الذي يعين رئيس الاتحاد العام للجمعيات الهندوسية، وقد وجه حزب بهاراتيا جاناتا، حزب الأصولية الهندوسية وأحد أكبر أحزاب الهند إنذاراً إلى نيبال يطالبها بعدم الخضوع لمطالب المتمردين. وقال أحد الأصوليين إنه يتوقع أعمالاً انتحارية إذا تعرضت المعابد الهندوسية في نيبال للسوء أو وقع ذبح للأبقار في ساحاتها وساحات المدن. من ناحية أخرى، يقول المتمردون وكثير من أنصار التغيير والإصلاح إن الهندوسية مسؤولة عن التمييز العنصري والطبقي والديني في نيبال على امتداد 238 عاماً، وهي فترة النظام الديني الحاكم. نعرف مثلاً أن في نيبال أكثر من 103 طوائف دينية واجتماعية، ويتحدث أهلها بأكثر من 92 لغة ويدينون بالهندوسية وعشرة أديان أخرى، ونعرف أيضاً أنه إذ كانت قيادة التمرد في نيبال ماوية الجوهر، فأغلب ظني أن الاعتدال الراهن في توجهاتها لا يزيد عن كونه مرحلة في ثورة دائمة متصلة الحلقات. التغيير من الداخل في مواقع حساسة حتى وإن شابه بعض الغضب يأتي في صالح الشعب ودول الجوار، على عكس التغيير عن طريق الغزو والاحتلال، فعواقبه كارثية على الداخل والخارج معاً. لقد انتبهت جميع الأطراف في الحالة النيبالية إلى رعونة المجتمع الدولي وخطورة التدخل الإقليمي فامتنعت عن استدعائهما بل حشدت قواها لصدهما. * كاتب مصري