في زمن السقوط السياسي والاجتماعي والإنساني، تبدو للإنسان طريقان، طريق التصوف او اللامبالاة. وأبطال رواية"لعاب المحبرة"، للمؤلفة الجزائرية الشابة سارة حيدر اختاروا الطريق الثاني. أبطال يعانون الحقائق التي يعرفونها. نوع من"مجانين الحكمة"ضاقوا بما توصلوا اليه، عندما أزاحوا القشور التي تخفي الحقائق، فصارت فوق قدرتهم على الاحتمال. ضاقوا بها حتى الهذيان، حتى الجنون، أو ما يشبهه وتحولوا الى اللامبالاة. أبطال سيروون الخيبات الوطنية كما العربية، ولكن ذلك لن يكون ألمهم، على حد تعبير أحد الأبطال، الكاتب، بل ألم العرب الذين يعانون سقوط مدنهم الواحدة بعد الأخرى، حتى ان الكاتب بات يبحث عن"دمعة عظيمة يمكنها ان تغمر الأرض ماء غاضباً، يغرق جميع الهزائم والخيبات القديمة"، لأن الزمن برأي الأبطال على اختلافهم، هو زمن جدير بقيامة، بسبب الشدة التي تمر فيه. رواية سوريالية في قالب هذياني بجزء منها، عن الواقع العربي. وتلك خاصية عند الكتاب العرب، ان يكتب الواحد واقعه في بلاده، وخيبته من العرب، لأن المسألتين مترابطتان في نظره. حتى فلسطين غالباً"ما تقحم"في الروايات، وهنا بدا دخول خبرها عبر مجدي ساذجاً بعض الشيء، ولكن بما انه نتيجة واقع عربي معين، فقد يبدو ضرورياً في نظر الكتاب ذكرها. ما بال الكتاب يعتمدون الهذيان صيغة لرواية الواقع العربي الحالي؟ يبدو أن هذا الواقع تجاوز حدود السوريالية الأدبية، كما سبق وقاله الكاتب التونسي محمد علي اليوسفي في روايته"دانتيلا"وكما تقوله اليوم الجزائرية سارة حيدر، وكما يعرب عنه الكتاب العراقيون، الى درجة ان تصبح"الحكمة"تؤخذ من أفواه الهاذين! واقع يضعك، كما ذكرنا، أمام طريقين لا ثالث لهما. أبطال الرواية، عالقون كلٌّ في شباكه، ويحسون بأن كل إنسان، ان تحرر، يمكن ان يغير العالم كله. ولكن أياً منهم لن يحاول تجاوز واقعه وسيبقى طويلاً"معلقاً بين حلين قاسيين"عاجزاً عن الاختيار لأن كسر الدائرة المفرغة يحتاج الى كسر حلقة ما، ليحصل التغيير. إحداهن كان التغيير عندها بالموت، بعدما تجاوز الألم المعنوي من الواقع، حدوده المعقولة، قبل ان يتجاوزها الألم الجسدي بسبب الإصابة باللوكيميا. فيما ليلى كسرت الحلقة، بالعودة الى سبيل واقعي، للحصول على طفل، والتخلي عن حال الجمود التي عاشتها فترة، وهي تكذب على نفسها وتنتظر معجزة. موت"الملهمة"باللوكيميا، ملهمة الكاتب في الرواية، والتي تتماهى بالمحبرة، التي أغرته بالكتابة ليرتاح، كان الصدمة الضرورية ليعود بعضهم الى الواقع ويسلك طريقه من خلاله. في هذه الرواية، تتحدث المؤلفة عن سقوط عربي، أمام هجمة الأميركيين، يتجاوز بكثير ما يحصل اليوم. وتتخيل ملحمة من الصراع، على طريقة الحروب البونية، بين روما وقرطاجة، أو حرب طروادة، أو أي من الحروب الطاحنة، التي تجتمع فيها قوة طاغية وماحقة، ضد فئة غير قوية. ولكن الخلفية الثقافية الناضجة عند المؤلفة، وكل الرموز الجامدة التي حطمتها، لم توصلها الى تجاوز بعض التعابير، أو الأفكار في هذه الناحية السياسية: علاقة الأميركيين بالعرب. ظلت تستعمل تعبير الحروب الصليبية الجديدة، وتتحدث وكأن الأميركيين يستهدفون العرب تحديداً، لهدف ما. فماذا عن أميركا اللاتينية، وما أوقعته بها هذه الدولة العظمى، قبل العرب بكثير، ولا تزال وان مواربة. وماذا عن دول أخرى، رافقت مآسيها، ما كان يحصل في العراق، وكيف لم تتمكن المؤلفة، ذات المخزون الثقافي الواضح من كتاباتها، ان تلحظ هذه المسألة؟ جميل ما أوردته من تحليل عن واقع عربي، يشد نفسه بسلاسل الماضي، فلا يتمكن من التحرك، ولكن محدودية نظرتها الى علاقة الأميركيين بالعرب، فاجأتنا. هذا الواقع العربي يُحلل بالكلمات والافكار نفسها في اكثر من رواية ومقال، ولكن من يستطيع حياله شيئاً؟ لذلك كان الهذيان. رواية الألم،"لعاب المحبرة"الدار العربية للعلوم، بيروت ومنشورات الاختلاف، الجزائر 2006 الألم الذي لا يُبكي، لأنه يدعي اللامبالاة، ولكنه يصف الواقع كالصفعة. وأداته"لغة قوية بما يكفي، كي تغطي على انعدام المعنى، وتتستر على موت المادة الإبداعية"... ليس ان الموضوع الملموس في الرواية غير بارز فقط، بل ان العرب ربما، لم يعد هاجسهم إلا اللغة، على رغم كل التقدم العالمي. هذه الرواية، هي ألم الانتماء وغيابه، واشتهاؤه، مهما ادعى الأبطال العكس. وهي ألم الغربة في الوطن، والإحساس انه أم تخلت عن أبنائها ولا تريد ان يتدخلوا في إرادتها اتخاذ مسار معين. ولكن من حدد تلك الإرادة؟ انه السقوط. أفكار الرواية، هي أفكار وتساؤلات، لا يمكن ان تصدر إلا عمن أُتخِم عنفاً، وعمن ضاق بالألم، حتى"قرر"اللامبالاة، لئلا يموت قهراً. ومع هذا لن يرتاح. لذلك يقول الكاتب في الرواية:"نحن نكتب لأننا نريد الهروب من فشلنا من ممارسة الواقع كالآخرين". لأنهم أناسٌ الرفض في داخلهم، وحساسيتهم عميقة، وما يحصل يعذبهم وما من جواب إلا العبثية. لذلك يعيدون النظر بكل المسلّمات، ليصلوا في النهاية الى أن"لا وطن لهم سوى الانتماء الى ذواتهم"وهو أقسى أنواع الوحدة. السلام الداخلي، هو ما يبحث عنه هؤلاء الأبطال. تعرف"الملهمة"في الرواية، أن الصوفيين ذهبوا ذلك المذهب، للتخفيف من الم الواقع. وتدري روعة الدين، حين يأخذنا الى الرمز"غير المرعب"، ولكنها نتيجة التضعضع، تنجرف في حياة غير مستقرة. حتى ليبدو انجرافها هذا، تحدياً لمن يفرضون أفكارهم على غيرهم بقدر ما هو غضب من واقع فُرض عليها. ولا تتساءل لماذا لم تسلك المسلك الخلاصي، لأن به ما كانت الرواية. هذه الرواية، هي كل التساؤلات والأفكار، في قالب من الفوضى. بدأ السرد"طرياً"أشبه بعجينة لا تزال تتشكل، في مطلع الرواية، وكان على شيء من سذاجة، بإيراد أفكار عظيمة، في هذا القالب غير المتماسك تماماً. وما لبثت الفصول ان اشتبكت الواحد بالآخر، لتشكل نوعاً من الحبكة، والقالب المقنع، حتى غدت الرواية جميلة في الثلث الأخير، بدءاً بپ"مذكرات مؤجلة"وما بعدها. وأصبح الكلام مدوزناً، كالنوتات الموسيقية التي أكثرت المؤلفة الحديث عنها. واستطاعت المؤلفة ان تقدم للقارئ أرضية متماسكة، في هذا القسم من الرواية. وظهرت كثافة المعنى وجمال الاستعارات، مع الإمساك بالسرد. وأفضت الفوضى الأولية، الأشبه بفوضى الخلق، الى رواية سوريالية. في رأينا، كانت الرواية تحتاج الى بعض من"تشذيب"وحذف، لتتكثف مقاطعها المهمة وتتقارب ويصبح السرد شكلاً من تراكم أفكار وتراكيب جميلة، لا تضيع بين المقاطع الطويلة العادية الأثر. ولكن في النهاية هي رواية جيدة بمجملها والانتقال بين الشخصيات، التي تحدثت كلٌّ بلسانها، كان منطقياً.