خلال الأسابيع الأخيرة بدا - على السطح - أن التعامل الأميركي مع ايران يغير من لهجته... وان لم يغير من لغته. وزارة الخارجية الأميركية اعترضت على مشروع قانون بعنوان"دعم حرية ايران"تقدم به الى الكونغرس"بك سانتورم"عضو مجلس الشيوخ بحجة تعارضه مع الجهود الديبلوماسية التي تبذلها الوزارة لحل الأزمة الإيرانية. كذلك حثت ادارة الرئيس جورج بوش الكونغرس على تفادي تشديد العقوبات ضد الشركات الأجنبية التي تستثمر في قطاع البترول والغاز في إيران قائلة إن ذلك قد يضر بالمبادرة الديبلوماسية التي تقوم بها دول كبرى تجاه طهران والتي تمر بمرحلة حرجة. بموازاة هذا وذاك كانت المبادرة التي تلقتها ايران من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً ألمانيا. ربما يبدو هذا تحولاً طفيفاً - وليس تناقضاً - مع ما كانت تلوح وتنذر به الإدارة الأميركية حتى 19 نيسان ابريل الماضي حينما أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عن استعداد بلادها للتصرف بمفردها في شأن ايران لو لزم الأمر في التلويح بالعمل العسكري المنفرد أو بقيادة مجموعة من"الدول الراغبة"ضد ايران. لكن الكلمات نصف الناعمة لا تلغي تماما المدخل الخشن الذي اختارته الادارة الأميركية منذ أعلنت فجأة أن ايران جزء من"محور الشر"الذي أخذت أميركا على عاتقها مواجهته بكل السبل تحت العنوان الملفق: الحرب ضد الإرهاب. فالجنرال جورج كيسي كبير القادة العسكريين في العراق يعلن من مقر وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون أن تزايد النفوذ الإيراني في العراق هو أحد المشاكل الأربعة التي تواجهها أميركا هناك وأن"الإيرانيين عبر القوات الخاصة يقدمون الأسلحة والعبوات الناسفة والتدريب للجماعات الشيعية المتطرفة في العراق ويجري التدريب في ايران وربما أحيانا في لبنان عبر عناصرهم". الجنرال الأميركي يقرر اذن أنه"منذ شهر كانون الثاني يناير الماضي شهدنا زيادة في دعمهم ولاسيما للجماعات الشيعية المتطرفة وهم يقدمون الأسلحة والتدريب والمعدات الى المتمردين الشيعة وهذه المعدات تستخدم ضدنا". في الوقت نفسه فإنه منذ ابلاغ ايران بمبادرة"الستة الكبار"استمر الرئيس الأميركي وأقطاب ادارته في انذار ايران بأن عليها أن تقدم رداً مبكراً على تلك المبادرة، والبيت الأبيض يكرر الإعلان عن رغبته في سماع الرد الإيراني قبل منتصف تموز يوليو على أبعد تقدير. والفكرة هنا تشير الى موعد اجتماع قادة الدول الصناعية الثمانية الكبرى في بطرسبورغ فيما بين 15 و17 تموز. واعتبرت الإدارة الأميركية أن هذه مهلة أخيرة ويجب أن يبدأ الرد الإيراني خلالها بالتوقف الإيراني الكامل عن عمليات تخصيب اليورانيوم، وهو التنازل الجوهري الذي تسعى اليه أميركا من ايران كالتزام مسبق على رغم أن تخصيب اليورانيوم هو حق أصيل لإيران وكل الدول الموقعة على معاهدة منع انتشار السلاح النووي. سلطت الإدارة الأميركية بعض حلفائها لانذار ايران وفي مقدمهم فرنسا، والسكرتير العام للأمم المتحدة كوفي انان بدرجة أقل. لكن الطبيعي تماماً أن يعلو صوت اسرائيل في هذه المرحلة حيث أكد رئيس وزرائها ايهود أولمرت ان فرصة امتلاك ايران سلاحاً نووياً هي أمر لا يمكن احتماله. ومن مؤتمر في البتراء في الأردن ارتفع صوت رئيس الوزراء الإسرائيلي محذرا بقوله:"آمل أن تفهم ايران أن هذه اللعبة خطرة جدا ويجب أن يفهموا أنه لا يمكنهم تجاوز الخطوط الحمر". أنصار اسرائيل في فريق المحافظين الجدد بواشنطن كانوا متناغمين في دفع الإدارة الأميركية الى المضي قدماً في ضرب ايران عسكريا. أحدهم مثلا هو ريتشارد بيرل الذي أزيح سابقا من رئاسة مجلس السياسة الدفاعية وكان من أبرز المروجين لفكرة استخدام القوة العسكرية الأميركية لتدمير أعداء اسرائيل في المنطقة مرة واحدة ونهائية. فقط من قبيل التذكير نستعيد هنا بعضا من افكار بيرل كما أوردها في كتاب له حينما أعلن ان السعودية يجب التعامل معها كعدو لأميركا وسورية مقضي عليها والعرب يجب أن يتخلصوا من وهم أن الضفة الغربية من حقهم لمجرد أنها كانت لهم ذات يوم ومصر عليها التكيف مع فكرة أنها بعد أن كانت قائدة فقد أصبحت مجرد مروجة لفكرة بديلة وهي قيادة اسرائيل للمنطقة، كما أن استيلاء اميركا على العراق بالقوة العسكرية سيضع أميركا تاليا في موقف الآمر الناهي لكل المنطقة بما يجعل كل النظم العربية تخشى على مصيرها فلا تحتاج أميركا مع كل نظام سوى أن تشخط فيه وتأمره فيمتثل في كل حالة وبغير تكلفة. بيرل هذا يشكو الآن من تأخر ادارة جورج بوش في التعامل بحزم مع ايران لأن:"الذي حدث في سنة 2003 هو تسليم وزارة الخارجية الأميركية مفاتيح حل الأزمة الإيرانية لأطراف الاتحاد الأوروبي التي تمثلها فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وتلك الأطراف الأوروبية الثلاثة مجتمعة وفرت غطاء ديبلوماسياً واقياً لإدارة طالما تنازعتها التناقضات والعجز عن اتخاذ القرارات الحاسمة". هذا في قاموس ريتشارد بيرل يمثل:"تراجعاً مخزياً"من الرئيس جورج بوش أمام طهران حيث:"يدرك بوش أن للإيرانيين يدا وراء تقويض جهودنا في العراق كما يدرك أنهم يبذلون قصارى جهدهم من أجل الحيلولة دون أية بارقة أمل أو سلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين"الخ... أكثر من ذلك فإن ريتشارد بيرل يلقي بالمسؤولية على"كل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ سنة 1979 التي لم تكن لها استراتيجية سياسية جادة يعول عليها تجاه طهران. أما فشل تلك الأدارات جميعاً - بما فيها الإدارة الحالية - في توفير الدعم المعنوي والسياسي لمعارضي النظام الإيراني فهو مأساة وكارثة بحق". في الخلاصة فإن الوقت لم يفت بعد لكي:"تسترد أميركا هيبتها ومكانتها الممرغة في وحل الإهانات الإيرانية". اذن الخطأ الجوهري للسياسة الأميركية في نظر ريتشارد بيرل يعود الى سنة 1979 - سنة سقوط شاه ايران وقيام الجمهورية في طهران. خطأ لم ولن يغفره أمثال بيرل وباقي المحافظين الجدد للشعب الإيراني. ربما بهذا المعنى فقط يمكن تفهم حقد المحافظين الجدد في واشنطن لأنه من حيث النوع يعادل مشاعر محافظين جدد مثلهم سابقا لم يغفروا للصين وقتها قبولها بنظام جديد في سنة 1949 بقيادة ماو تسي تونغ فتبادلوا الاتهامات تحت عنوان: من أضاع الصين؟ ايران هي منذ فترة طويلة في دائرة الاهتمام الأميركي وتحول هذا الاهتمام تاليا الى استراتيجية قائمة بذاتها منذ سنة 1979 وازداد حدة بعد انتهاء الحرب الباردة وخروج المجمع الصناعي البترولي العسكري الأميركي دافعا بقوة الى انتهاز فرصة تفكك الاتحاد السوفياتي وانكفاء روسيا الجديدة على نفسها من أجل دفع مشروع"القرن الأميركي الجديد"كغطاء لوضع أميركا الأمبراطوري المستجد عالميا بسرعة قبل بزوغ قوى منافسة ومناوئة في المسرح الدولي. في حالة الغزو الأميركي للعراق اختارت أميركا أن تفرض بالقوة العسكرية أمرا واقعا رغم معارضة القوى الدولية الأخرى. وكان مفترضا أن يصبح اسقاط النظام الحاكم في طهران ووضع اليد على ايران هو الخطوة التالية. ايران في المشروع الأميركي كانت مستهدفة ومحاصرة من قبل ادارة جورج بوش الأب. وسياسة"الاحتواء المزدوج"معلنة ومطبقة ضدها كما العراق منذ سنوات ورئاسة بيل كلينتون وبعدها القانون الغريب من الكونجرس الأميركي بمعاقبة أية شركة أجنبية تستثمر في حقول البترول الإيرانية. شعار أميركا باختصار: اذا لم يكن البترول الإيراني من نصيب أميركا فأميركا لن تسمح له بأن يكون من نصيب الآخرين. ايران تملك ثاني أكبر احتياطي في العالم من البترول الخام بعد السعودية وثاني أكبر احتياطي في العالم من الغاز بعد روسيا. جائزة يسيل أمامها لعاب قوة عظمى ترى أنها أصبحت محتكرة لعرش القوة العالمية ولو لسنوات محدودة وتريد قطع الطريق الى هذه القوة على الآخرين. القصة الأميركية سابقة اذن على حكاية الملف النووي الإيراني الذي هو بالأساس لا علاقة له بالتسلح النووي. لقد كانت واشنطن هي التي تدعم طموحات ايران النووية قبل الثورة الإيرانية في 1979 وكان هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في ادارة جيرالد فورد هو الذي أعلن وقتها أن الطاقة النووية ستلبي الاحتياجات المتزايدة للاقتصاد الإيراني وتمكنها من توجيه احتياطيها من البترول الى التصدير أو التحويل. وأخيراً توجهت صحفية بسؤالها الى كيسنجر: اذا كنت تعارض التوجه النووي للإيرانيين حالياً، فلماذا أنت شخصياً كنت تدعمه قبل 30 سنة؟ وكان رده المختصر هو: لأنهم قبل 30 سنة كانوا حلفاء لنا. هذا يعيدنا الى الرؤية الإيرانية للسياسة الأميركية الراهنة وقد عبر عنها بدقة أخيراً علي لاريجاني كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين قائلا:"ان الولاياتالمتحدة مصممة على اسقاط النظام الأيراني مهما حصل في المحادثات بشأن خططنا النووية... أما القضية النووية فمجرد ذريعة. فإذا لم تكن القضية النووية كانوا سيخرجون بشيء آخر". والواقع ان السياسة الأميركية الراهنة لو تركت لأفضلياتها فإنها كانت سترتب لضرب ايران عسكريا ولديها القدرة على ذلك عمليا. لكن المشكلة هي أن الغزو الأميركي للعراق علم بعض ساخني الرؤوس في واشنطن حدود القوة. أميركا وبسهولة وتكلفة بدت في حينها مقبولة، نجحت في غزو واحتلال العراق. لكن نهب بترول العراق، فضلا عن الاستمرار في احتلاله، يظل عالي التكلفة. وفي حالة ايران تصبح التكلفة تأكيدا أكبر وأكبر وهذا هو الذي يجعل السياسة الأميركية تراجع أوراقها. فأولويات السياسة الأميركية الراهنة ثلاثية: عزل ايران - افتعال محيط اقليمي معاد لها - تحييد القوى الدولية الكبرى المنافسة. وفي الجبهات الثلاث اختلط نجاح أميركا بالفشل حتى الآن. في الأسبوع الماضي خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متناولاً الملف الإيراني ومحذراً من أن بلاده"لا تنوي دخول أي أحلاف مقدسة"ضد أي طرف مقررا ان العالم بات يقف على حافة مواجهة وصفها بأنها"عقيمة"وأن روسيا"لن تنضم الى توجيه انذارات الى أحد"معتبرا هذه الآليات"توصل الأمور الى حائط مسدود وتلحق أضراراً بالغة بسمعة مجلس الأمن ومصداقيته". روسيا اذن وهي الأكثر معرفة ودراية بحقيقة الملف النووي الإيراني تتصرف كدولة مسؤولة. لكن المحافظين الجدد ذوي النفوذ في واشنطن يتصرفون على أساس أن أميركا امبراطورية جشعة ومسيطرة وقادرة. كلها أسبوعان... ونعرف! * كاتب مصري